تعني البوليفونية في نظرية الموسيقى تعددَ الأصوات المسموعة في العمل، سواء بتعدد النغمات (وهي الهارمونية)، أو تعدد الطبقات، أو تعدد الألحان (وهو الكونترابنط). وذلك في مقابل الصوت الوحيد، أو اللحن الواحد. ومن ضمن أبرز أوجه المقارنة بين الموسيقى العربية والموسيقى الغربية موضوع البوليفونية؛ فلماذا غابت البوليفونية عن الموسيقى العربية، حتى في عصرها الذهبي؟ وهل غابت فعلاً أم «لم تتطور»؟ وهل السبب في غيابها المفترض هو طبيعة المقامات العربية، أم سبب أعمق يتعلق بالعقلية العربية نفسها؟
وقد وصل الخلاف في هذه المسألة إلى أقصى طرفيها؛ جعل بعضهم «يتهم» الموسيقى العربية بالقصور عن استغراق جميع ممكنات الآلة الموسيقية والصوت البشري، وجعل الآخر يستنكر أي محاولة لإدراج البوليفونية في الموسيقى العربية باعتبارها سمة أجنبية وتغريبية. ولكن التاريخ يثبت في النهاية أنه مجال للانتخاب الطبيعي بين الأفكار، وأن مثل تلك الأحكام المبطنة بأيديولوجيا مسبقة لا تصمد أمام التحليل المنطقي. والدليل أن البوليفونية قد ظهرت في الموسيقى العربية بالفعل في فترة إحيائها في أوائل القرن العشرين، وأنها استمرت حتى اليوم، وأن أهم أعلامها موسيقيون أصلاء لا يشوبهم النقل أو التجريب لذات التجريب، وأنهم متمكنون من تراثهم الموسيقيّ بما تشهد عليه أعمالهم. ومع ذلك لم تنتشر البوليفونية في الموسيقى العربية حتى مع اتساع مساحة التجريب، فكيف نشأت البوليفونية في الموسيقى العربية؟ وكيف ارتقت؟
إن أوضح مثال للبوليفونية في الفترة المعاصرة، ومن أكثرها مسموعية وتداولاً كذلك، موسيقى عمار الشريعي (1948-2012). لقد نمت شهرة الشريعي خصيصًا بعد تلحينه لموسيقى مسلسلي الجاسوسية المشهورين في مصر: «دموع في عيون وقحة» (1980)، و«رأفت الهجان» (1988). وقد وضع الشريعي الكثير من موسيقى المسلسلات قبل هذين العملين، وبينهما، وبعدهما، ولكن تظل ألحانه في هذين العملين أكثر شهرة من أغلب مؤلفاته من جهة، وأكثر نضجًا في التعامل مع البوليفونية من جهة أخرى. والغريب أن جل المستمعين العرب لا يتعرفون على دور البوليفونية في أعماله، ولكن الملحوظ أيضًا أنهم لا يشكُون منها، ولا تزعج ذائقتهم الجمالية. وفي الفن –لا النقد الفني- ليس من الضروري أن يدرك المتلقي مدى ما بلغتَه نظريًا من إبداع، بل يكفي فقط أنه لم يشعر بنشاز في التلقي. أما بيان مدى هذا الإبداع، وكيفيته، وعلّته إنما من شأن النقاد، ومن أدوارهم الأساسية، التي لا غنى عنها لتطور الفن. وليست الملاحظة السابقة هامشية؛ فمعنى أن المستمع العربي لم يشعر بنتوءات خاصة في التلقي، وأن العمل الذي نتحدث عنه منتشر شعبيًا بامتياز، فإن هذا يعني أن البوليفونية ليست بطبيعتها غريبة على العقلية العربية، هي فقط غريبة عن الفن العربي. وسنعود إلى الشريعي مرة أخرى، ولكن الأهم حتى الآن هو كيف ظهرت البوليفونية عربيًا؟ وماذا كان مصيرها؟
يعتبَر عمار الشريعي متأخرًا زمنيًا في طبقات الموسيقيين المصريين، ولذا لنا أن نتوقع أن للبوليفونية جذورًا أعمق من مرحلته في الربع الثاني من القرن العشرين. وفي الواقع يمكن رد أولى المحاولات في البوليفونية العربية إلى سيد درويش (1892-1923)، في ختام الفصل الأول من مسرحية «شهرزاد» من تأليف توفيق الحكيم، لحن «دقت طبول الحرب»، وهي بوليفونية الطبقات والكونترابنط معًا. وتعني أن على المستمع أن يسمع الطبقتين معًا، لا إحداهما منفردة؛ كي يكتمل لديه تصور العمل. وقد كرر ذلك في تلحينه لمسرحية «البروكة» في الفصلين الثاني والثالث. وهناك من الوثائق ما يفيد أن سيد درويش قد وافق على التلحين للبيانو الشرقي، الذي يسمح بتطبيق الهارمونية على مدى أوسع من أغلب الآلات، ويوافق ربع النغمة في المقامات العربية.[1] وليس من الجديد الحديث عن الجديد حين نتحدث عن سيد درويش؛ فهو المعروف بالتجديد إلى درجة أغفلت صلته بالتراث الموسيقي العربي، ولكنه كان بحق رائد التجديد في الألحان، واستعمال المقامات، وتعديل الأشكال الموسيقية، إلى جانب إجادته في كافة الأشكال الموسيقية العربية في عصره بدرجة تدنو من الكمال. وهذه هي المعادلة: التجديد مع الإجادة، التي ستتكرر حين نطالع المسألة عند صديق درويش، وتلميذه الأول، والمولود معه في السنة نفسها: القصبجي (1892-1966).
فمحمد علي إبراهيم القصبجي موسيقار من الطبقة الأولى تفضيلاً، ومن الجيل الثاني، جيل درويش، زمنيًا. وإذا كانت المنية قد اخترمت درويش مبكرًا، وهو في الحادية والثلاثين –وبهذا يكون من أقصر الموسيقيين الكبار عمرًا إلى جوار شوبرت وموتسارت- فإن القصبجي قد عاش حتى جاوز السبعين، عاش أعوامًا طويلة، لكنه لم يعش مثلها من جهة الشهرة، ولم تزل أشهر ألحانه إلى اليوم غير معروفة لغير المختصين، أو السمّاعين الأصلاء، رغم شهرة العمل نفسه. وإذا كانت ألحان درويش هي المميزة له، التي نعرفه منها فور سماعها، فإن معالجة القصبجي للحن هي التي جعلته فعلاً متفردًا، حتى مع معاصرته للعبقري الشاب سيد درويش. ولم يزل سبب خفوت شهرته محل جدال: فهل السبب أنه لم يؤدِّ بصوته بما يكفي حتى يعرفه المستمعون؟ أم هل تسببت قطيعته مع أم كلثوم في قطيعة باطنة مع الوسط الفني المحيط، والمحتفي بها؟ هل السبب أنه كان تجريبيًا أكثر من اللازم؟ هل نضب معينه فعلاً كما قالت له أم كلثوم، أم أن هذه التهمة من كوكب الشرق هي التي جففت معينه كعاصفة شمسية؟[2]
لكن ما يبقى من الفنان هو ما يستمر بعد رحيله، وما بقي من القصبجي دليل على احترافه المعادلة سابقة الذكر (التجديد مع الإجادة)؛ فقد كان محترفًا فريدًا من نوعه كعازف على آلة العود، وكان متمكنًا من التلحين الشرقي، وفي الوقت ذاته لم يقدم استنساخًا للتجارب الراسخة في الموسيقى العربية، ولا حتى تأثرًا واضحًا بمشروع سيد درويش الثوري على قدر ثوريته، كان له طريقه الخاص المميز، الذي لم يقلد أحدًا فيه، ولم يقلده أحد فيه، سوى محاولات أقل أهمية بكثير لتلميذه محمد عبد الوهاب. كانت أهمية القصبجي الواضحة بمجرد النظر هي هذا المزيج الفريد من الغنائين الشرقي والغربي، وهو نموذج واضح –ربما أكثر من الحدّ- في أغنية «يا طيور» الشهيرة. وإذا كانت «يا طيور» متكلفة في إظهار هذا المزيج، إلى حد قيام أسمهان بتصويت بعض المقاطع لتحاكي لغة الطير، فإن أغلب مؤلفات القصبجي تتضمن هذا المزيج بشكل باطن، لا يدركه بعمق سوى من كانت له أذن خبيرة بالموسيقى الغربية، وأذن مخضرمة في الغناء العربي. ولا تشترط الخبرة المذكورة لمجرد تمييز هذا الطابع، فهو بين بذاته كم قدمنا، ولكنها هامة في ملاحظة مدى التقدم المبذول فيه من جهة القصبجي. لقد استطاع القصبجي تحقيق مزج متوازن بين نوعي الغناء: الشرقي والغربي، فهو أقرب إلى غناء أوبرالي في قصر مملوكي، أو تقاسيم عود عربي في بلاط نمساوي.
وإذا كنا لا نجد ملامح بوليفونية قوية في القصبجي فإن لديه ملمحًا آخر هامًا، لا ينفصل عن البوليفونية، لكنه لا يدخل في مدخلها، ألا وهو الاشتقاق اللحني. وقد قلنا في مقالات سابقة أن الاشتقاق اللحني هو عماد الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وبه تتميز عن شتى أنواع الموسيقى الأخرى. ويعني الاشتقاق الاعتماد على جملة واحدة لا تتكرر بحذافيرها، بل بتعديلات محسوبة، ومنها يتطور العمل. وإذا كان القصبجي في رأي مؤرخي الموسيقى العربية هو الذي أرسى شكل المونولوج، الشبيه بالآريا الأوبرالية، فإنه قد وضع مونولوجات من النوع الذي لا يتكرر فيه اللحن، بل يبدأ، ثم تليه تنويعات، ومشتقات، حتى ينتهي العمل. وعدم التكرار، أو بالأحرى الاعتماد على عدم التكرار، من سمات العمل الكلاسيكي. ولكن القصبجي لم يعتمد تلك التجديدات بهدف الاشتهار، ولا استجابة لعقدة نقص حضاري، بل مزجها مزجًا بالتقليد، حتى ينطبق عليه وصف المطوِّر أبلغ انطباق. ومن هذه الجهة يمكن مبدئيًا وضع أعمال القصبجي في كفة، وأعمال غيره من أساتذته وتلاميذه في كفة أخرى. لقد وقعت الموسيقى العربية بعد حقبة الستينات في فضاء حر للتجريب للمرة الأولى، واشتهر موسيقيون لم يحسب أحد لهم نصيبًا متوقعًا من الشهرة، ولم يعد نصل النقد حادًا كما كان في عصر النهضة العربي مع أواخر القرن التاسع عشر. ومع ذلك لا يمكننا عادة وصف هذا المنتج بعد الستينات، المشبع بالمقامات، والآلات، وربما الألحان، والكلمات الغربية، بالأصالة، أو بالتطوير. والسبب هو الإخلال بمعادلة التجديد والإجادة السابقة؛ فلم يثبت أغلب هؤلاء الموسيقيين المحدثين باعًا في التلحين الشرقي، ولا استفادة ثرية منه.
ولم يخرج عمار الشريعي عن هذه القاعدة؛ فهو ليس ملحنًا شرقيًا مخضرمًا كأساتذته، وليس له مجال في الأشكال الكلاسيكية للغناء الشرقي. وبالتالي أخل بمعادلتنا. ومع ذلك فإن له أهمية كبرى –فيما نرى- حين نبحث قضية البوليفونية؛ لأنه قدمها في أعمال مسموعة وذات شعبية كبيرة، ولأنه قدمها بجرأة أيضًا كبيرة. فالمستمع الشرقي قد يألف الغناء من أكثر من طبقة في وقت واحد، وقد لا يفهم وظيفة الهارموني، لكنه لا يصده عن العمل، أما بوليفونية الألحان، أي عزف أكثر من لحن معًا في الوقت ذاته، فهي مسألة مختلفة؛ لأن التعاطي الأساسي عند المستمع العربي هو اللحن. وحين يغني الكورال على أكثر من طبقة معًا على اللحن نفسه، أو حين يستعمَل الهارموني لإضفاء الألوان النغمية على العمل، فإن اللحن واحد في الحالتين لم يتغير. أما مع الكونترابنط، أي تعددية الألحان، فإن لغة المستمع العربي نفسها –اللحن- تتغير. ولكننا حين نستمع إلى مقدمة مسلسل «رأفت الهجان» فإننا نلاحظ بوضوح توازي اللحنين، مما يمنح العمل أبعادًا أكثر، وعمقًا أكبر، ويسمح بقدر من التأمل في مبناه. وهو توجه واضح نحو الشكلانية، التي ترفع قيمة التخطيط الهندسي للعمل فوق كل قيمة أخرى له. ويبدو الفارق لصالح الشريعي حين نقارنه بمنافسه الأساسي على الساحة الموسيقية المصرية في ربع القرن المنقضي، عمر خيرت. فما يميز موسيقى عمر خيرت في الحقيقة هو التوزيع، وهي موهبة في حد ذاتها كموهبة اللحن، يمكن تعلمها، ولكن لا يتناسب التعلم فيها طرديًا مع جودة إعادة إنتاجها. لن نجد في موسيقى خيرت إنماء للألحان، ولا تجارب بوليفونية، بل حتى إنّ ألحانه أقل رشاقة وجمالاً من ألحان الشريعي، الذي أوتي بحق موهبة اللحن.
وهكذا يمكن رسم مسار مبدئي للبوليفونية في الحقبة العربية المعاصرة؛ فقد بدأت الاستفادة منها فعلاً مع الجيل الثاني من الموسيقيين العرب المحدثين، وكان التأثر بالأوبرا الإيطالية عاملاً مهمًا، إلى جوار الهموم التجديدية لذلك الجيل من الموسيقيين. لكن أقدر الناس عليها، أي القصبجي، لم يجد لما جربه، وما تعلمه بنفسه، تطبيقًا، مع انفصاله عن أم كلثوم، ونزعتها اللا-تجريبية، التي تحاول إرضاء المستمع قبل تغيير ذوقه، ثم وفاة أسمهان المبكرة نسبيًا، والتي كان يرى فريد الأطرش أنها لو امتد عمرها بما يكفي لشكلت تهديدًا حقيقيًا لمكانة كوكب الشرق. وهكذا خفت صوت هذه التجارب الموسيقية لصالح التلحين الأقرب إلى الإطراب، والارتجال، واستعراض مهارات المغني والعازف، التي كانت وصفة النجاح والشهرة في ذلك الوقت. لكن البوليفونية قد عادت مرة أخرى مع موسيقار أقل أهمية من جهة التأسيس، وأقل خبرة بالتلحين الشرقي، هو عمار الشريعي في فترة متأخرة، ولأول مرة حازت البوليفونية العربية على قلوب المستمعين، واشتهرت حتى وصلت إلى الأطفال في المدارس، الذين تربوا على ألحان الشريعي في المسلسلات والأفلام والأغاني.
ولكن كي يكون التجديد ذا قيمة يجب أن يكون ذا حضور واقعي. ولا يمكن للجديد أن يحوز حضورًا واقعيًا إلا في اتصاله بالقديم، في نقده له، واستفادته منه، وتجاوزه. والأهم من ذلك أن يرتبط المشروع التجديدي بمشروع الفنان، فلا يأتي أحدهما على حساب الآخَر. ونظرًا لأن التجديد يعتمد كما قلنا على تحققه الواقعي، ولا يكون يكون ذلك في الفن دون جمهور، فإن هناك عوامل نفسية عديدة تمارس دورها كذلك في مسألة التجديد. فالجمهور قد ينصرف عن ملحن متغرِّب لأنه متغرب، والعكس قد يكون صحيحًا. ولذلك على المجدد أن يدفع عن نفسه أولاً شبهة الانبهار بالآخر الحضاري، مع دفعه لتهمة أصوليته الفنية كذلك، ومن هنا عليه عدم إغفال أي من التراثين المحلي، أو العالمي.
وأخيرًا: ما مستقبل البوليفونية في الموسيقى العربية؟ الواقع أن مستقبلها يرتبط بماضيها؛ فلكي نحقق استيعابًا للبوليفونية بأنواعها في الموسيقى العربية علينا أن نبدأ مما توقف عنده السابقون، نبدأ منه، لا ننتهي إليه. والخطة السابقة ذات الوزن في تقديرنا هي خطوة القصبجي، فرغم أن موسيقيين محدثين قد برعوا إلى حد بعيد في وضع موسيقى الفيلم والمسلسل، وأن بعضهم كالشريعي قد أنجز تجربة بوليفونية مهمة، فأغلبهم لا يجمع بقبضة واحدة التجديد والتراث كما فعل سيد درويش والقصبجي. ما زلنا نفتقر إلى الموسيقار الواعي بتراثه، والواعي بتراث الغير، والمتجاوز لهما معًا بشجاعة وقدرات إبداعية عالية. ولا ريب أن القضايا تولد معًا، وتموت معًا. وحين كان لمصر مشروع قومي يتلخص في طرد المستعمر الإنجليزي والحصول على الاستقلال الوطني، كان بمصر أيضًا عمالقة من مستوى درويش والقصبجي، وأساس إبداعهم هو الشعور بأهمية دورهم في المساهمة في الحركة الوطنية، والاستقلال السياسي، الذي يبدأ كما قدّروا من الاستقلال الثقافي، وهذا الأخير لا يتحقق مع رفض الآخر، أو إنكار الأنا. فالإنكار يؤدي إلى الكبت. والكبت يؤدي إلى الانفجار. والانفجار –عادة- يذكَر هنا مجازًا، وأحيانًا كحقيقة.
[1] – فكتور سحّاب: السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1987، ص 46.
[2] – يمكن الرجوع في هذه النقطة إلى البحث الذي قام به عبد الهادي بازرباشي (أحلام أكبر من صوت الست- نكسات القصبجي):