ليس غريبًا اليوم أن تظلَّ النظرية الفرنسية أهم مرجعٍ نظري للدراسات الثقافية، والنقد الثقافي، ونظريات ما بعد الحداثة بشكل عام، ولا أحد يُنكر دور هذه النظرية في رفد اتجاهات المعرفة والتأسيس لخطاب جديد قائم على الاختلاف والتعددية، وبلورة الوعي بقيمة الأنساق الثقافية في فهم وإحداث خلخلة جذرية في تاريخ الفكر الإنساني. أهمية هذه النظريات، تكمنُ أساسًا في كشوفات روادها، خاصةً منظري فترة ما بعد الحداثة.
وفي هذا الصدد، تَنَبَّهَ الباحث إدريس الخضراوي إلى أنّ إدوارد سعيد تأثّر بمقترحات النظرية الفرنسية، «فالحوار الثري والخصب الذي تمكن من القيام به مع أهم منظري ما بعد البنيوية مثل دريدا وميشيل فوكو، هو الذي مكنه من بلورة استقصاءات عميقة في صلب المعرفة، وتأسيس منظور جديد في التعامل مع النصوص كحادثة ثقافية تشتبك مع الخطابات والمؤسسات والأنساق الثقافية»[1]، كما أن الناقد عبد الله الغذامي، شَيّدَ مرتكزات نقده الثقافي على منهجية دريدا في تقويض الخطابات الأدبية[2]، سعيًا للكشف عن الأنساق المضمرة، ودراستها في سياقاتها المختلفة والمتعدّدة، فضلاً عن إسهامات عالم الاجتماع بيير بورديو في التأسيس لنظرية الحقول، ومفهوم العنف الرمزي الذي تمارسه المؤسسات الثقافية الرسميّة. هكذا إذن، نكتشف أننا أمام مرجعيات هامة ومتعددة في التعامل مع الخطابات الأدبية وغير الأدبية من زوايا أخرى غير الجمالية والبلاغية، وإنما سياقية نسقية ثقافية.
تمثلُّ التفكيكيّة أحد أبرز معالم هذه النّظريّة، ففرنسا هي الحاضن الأوّل لها، لكنَّ الدراسات تشير إلى أنّها ازدهرت أكثر بأمريكا حين ألقى جاك دريدا سلسلة محاضرات في جامعة جونز هوبكنز سنة 1966، وكانت هذه المحاضرات بمثابة الشرارة التي أشعلت نيران الجدل النقدي في الساحة النقدية الغربية. لقد كانت تفكيكية دريدا بيانًا (مُبشِّرًا) لبروز حركة نقدية اتخذت من استراتيجية التشريح دعامة منهجية لخلخلة مقولات بنية النص وانغلاقه، واستنطاق الأغوار والعلاقات المُغَيَّبَةَ داخل نسيج كل نص. من هذا المنظور، يبدو أن التفكيكية حافز على القراءة تتغيا زعزعة اليقينيات الميتافيزيقية للحضارة الكونية، عبرَ مُساءلة الكيان المغلق والثابت للخطابات. وقد استفادت كثيرًا من الفلسفة الألمانية، خاصة عند نيتشه وهايدجر وهوسرل، وإن كانت بعض الكشوفات تُشير إلى أن البداية الفعليّة للتفكيكية كانت مع رولان بارت و«موت المؤلف». لكن الثابت أيضًا أن بارت كان دائمَ التّرحال بين ضفاف المناهج الأدبية، وإن بدا تصنيفه في خانة النقاد البنيويين أمرًا جائزًا ومعقولًا.
«والتفكيك هو أسلوب دريدا في قراءة وتحليل النصوص عندما ينطلق من تفكيك النص لإظهاره بصورة مركب خليط من النصوص الأخرى، ويعتقد دريدا أن أسلوبه التفكيكي قادر في الوقت ذاته اكتشاف الطريقة التي أمكن بها تركيب النص أول الأمر. لذلك فكتابات دريدا بشكل عام وتفكيكه لأعمال غيره من المؤلفين، بوجه خاص تتسم بصعوبة يسهل تلمسها عند أول صفحة من دراساته، فهي تحبل بجدل الألفاظ والكلمات وبدائل الألفاظ التي يستعصي نقلها إلى لغة الضاد، وهذا التعريف لتفكيكية دريدا هو تعريف سطحي يفضل البعض وفق تصوري اللجوء إليه في محاولة لفهمه بصورة أبسط رغم أن دريدا ذاته لم يجد مفهومًا ما أو تعريفًا واضحًا لتفكيكيته»[3].
لقد كانت الغاية من ظهور التفكيك هو مضاعفة مبدأ الاختلاف بين الدوال والمدلولات، فلا يمكن أن يكون للنص الأدبي معنى واحد، أو محدود وواضح، وذلك لخضوعه لنوع من التفكيك لا التجميع، التخالف لا التوافق، فقد سعت الفلسفة الدريدية إلى الاشتغال حول مشكلات المعنى وتناقضاته لزرع فكرة البنية الثابتة، ووضعها بين قوسين، أي الاستدلال على طبيعة هذا التناقض المعرفي الحاصل بين النص والإساءات التي يمكن أن تحدث في القراءة، وهو بذلك يوجه «نقدًا لفكرة البنية في الأنثروبولوجيا عند كلود ليفي شتراوس، وتصف الورقة البنيوية بأنها اللحظة الأخيرة ضمن سلسلة متوالية من البنيويات الفلسفية، وبما أنها الأخيرة، فهي تعمل راضية على اختزال نفسها وتحييدها برد بنيتها إلى نقطة محددة، من نقاط الحضور، أو إلى أصل ثابت، أو إلى مركز»[4]، فالتفكيكية كاستراتيجية فلسفية انبنت على أنقاض البنيوية، حيث حاولت قراءة اللامفكر فيه من الثقافة الإنسانية، وبتعبير الناقد المغربي محمد مفتاح، فهي تتأسس على «منطق المفارقة أو منطق الإحراج، فهي ترفض تراث المركزية الأوروبية، ولكنها تقبل الفكر القبالي اليهودي بخلفياته الميثولوجية، وهي ترفض الإبداع وفي الوقت نفسه تدعو إليه، وهي تنظر إلى النص باعتباره شتاتًا وترفض المؤسسة، ومنها مؤسسة الجنس الأدبي، ولكنها تنظّر له وتؤسسه»[5]، ما يعنينا هو هذا الهدم الذي تمارسه التفكيكية على مفهوم التمركز وتعرية الأنساق المُشَكِّلَة للخطابات، واستخراج القواعد التي تتحكم في إنتاجها وتوليدها.
لقد أدتْ تفكيكية دريدا دورًا هامًا في تشريح النصوص وتقويضها، رغم أنها ارتبطت دومًا بهالات من الغموض والعدمية، نتيجة انحسارها في دائرة معرفية ضيقة وسلبية، فهي لم تحظ بالاحتفاء اللازم من طرف الدارسين والنقاد، كما أنها لم تنتشر بشكل كبير في موطنها الأصلي (فرنسا)، مقارنة مع المناهج النقدية الأخرى، وهذا راجع إلى اتصافها بالمراوغة والمخاتلة، فضلاً عن خلفياتها ونظرياتها التي تُقَوِّضُ عمل المؤسسات، وتُعيد قراءة كل ما أنتجه الإنسان بطرق مغايرة ومختلفة، وهذا ما حذا بالناقد المغربي محمد مفتاح إلى اعتبارها «نزعة»، وليست نظرية لها قواعد وأسس دقيقة ومحددة. وعمومًا، هذه أهم المرتكزات النظرية والإجرائية للفكر التفكيكي الدريدي:
– تجاوز اتساقية النص وانسجامه، عبر النفاذ إلى البنيات المتحجبة، وتحريره من بوتقة البنية المغلقة، خاصةً أن قراءة النص – أي نص – لا ينبغي أن تتم بطريقة فجة، سطحية تبسيطية، وإنما العمل على تفتيته إلى كيانات صغيرة، بالتركيز على استراتيجية التفكيك، ومحاولة استكناه مداراته ودواله العميقة، وقد أكد على ذلك دريدا بقوله: «ليس هناك من نص متجانس، هناك في كل نص، حتى في النصوص الميتافيزيقية الأكثر تقليدية، قوى عمل هي في الوقت نفسه قوى تفكيك للنص، هناك دائمًا إمكانية لأن تجد في النص المدروس نفسه ما يساعد على استنطاقه، وجعله يتفكك بنفسه»[6]، ويعني هذا، أن دريدا لا يعمد إلى خارج النص، بل يُفَضِّلُ التَّقوقع في الداخل، ممارسًا شتى أنواع الهدم، مبرزًا تناقضاته وأوهامه المستترة خلف حجاب البنية.
– نقد اللوغوس أو التمركز العقلي، وذلك عن طريقِ تقويض النَّص، وفضح لعبته الإيديولوجية الكامنة بين ثناياه، سيما تلك المهيمنات الموروثة عن الميتافيزيقيا، حتى أصبحت جوهرًا للتفكير الإنساني، دريدا هنا، ينبذ كل ما أنتجه العقل طوال القرون الماضية، ويجعل من اللا تمركز طريقًا للوصول إلى هتك وتفكيك حجب التفكير الغربي، إن القول بمركزية العقل هو قول يُنتج أفقيًا وعموديًا معنى واحدًا، نصًا واحدًا، يقود في النهاية إلى قصور في فهم العالم والمحيط والأشياء. يقول دريدا منتقدًا فلسفة هايدجر: «ففي جوانب كثيرة من عمله، وجدته ما يزال حبيس الرؤية الميتافيزيقية، هناك لديه أولًا استمرار لتمركز اللوغوس أو العقل»[7]، ونقد دريدا للتمركز العقلي لم يقتصر على المقولات الفلسفية والميتافيزيقية، وإنما بنى صرحه الفلسفي التفكيكي في كلِّياته على مفهوم التمركز بصفة عامة، فهو حين ينتقد هايدجر [لأنه أعلى من شأن العرق الجرماني]، هو في نفس الوقت، ينتقد المركزية الأوربية، ثنائية السيد والعبد التي عَمَّرت في تاريخ الفلسفة، فلا وجود لـ«أسطورة الأصل»، ولا فرق بين الأبيض والأسود، ولا فضل للعرق الجرماني على العروق الأخرى، كل هيمنة هي تقويض للشعوب المستضعفة، وممارسة من شأنها كتابة التاريخ الواحد، ذي الصوت الواحد، المسموع، والتفكيكية تسعى إلى كتابة التاريخ بأصوات وحناجر متعدِّدة، وعليه، فإن «قراءات دريدا للنصوص المختلفة ونصوصه التي وضعها تشكل كلها كما يقول جون ستريك استكشافًا لمركزية الكلمة الغربية وميتافيزيقيا الحضور التي يمكن القول إن هذه النصوص تؤكدها وتزعزعها في آن واحد»[8].
– نقد الانحباس والإقامة الدائمة داخل النص لكون الأدب يخضع لمقولات وتصورات جاهزة، دالة أحادية تقصي الغيرية والاختلاف والتعددية، وترهن النص الأدبي بنظام محدد سلفًا، رغم أن كثيرًا من النصوص الأدبية تبدو منفلتة وعصية على القبض، معنى ذلك، أن دريدا يعتبر النص الأدبي مجرد آثار لا نهائية من العلامات والدوال، بعبارة أخرى، النص هو مجموعة من «الأطراس الممسوحة» بتعبير الناقد الإيطالي أمبرتو إيكو، ودريدا هنا، يُواصل انتقاده للبنيوية الشكلانية التي ترى في النص كيانًا مغلقًا، مستحوذًا على معنى أو عدة معاني، وهذه «الاستراتيجية» الدريدية في القراءة والتأويل تنطوي على قدرة مُدَمِّرَة للنص، والنفاذ إلى الأغوار السحيقة، والانتقال من «البحث عن الحقيقة وعن المعنى القار الوحيد إلى البحث عن المحتمل والممكن وعن المعاني المتعددة»[9].
إنّ الفكر الدريدي قائم على النقد: نقد المؤسسة، نقد اللغة، نقد النقد البنيوي الشكلاني، فالنص ينطوي على طبقات وقوى غير متجانسة، وينبغي تجزئتها وتفكيكها، أو ما يسميه دريدا بـ«التفكيك الذاتي»، وهو إحالة على المضمرات والأنساق المُتَخَفِّيَة داخل نسيج كل نص، وتجاوز مقولة الثبات والمركزية والمهيمن إلى الاختلاف والتقويض والتَّعدُّدية، واللافت في هذه المقاربات الدريدية للنصوص، أنها تنبثق معرفيًا من داخل البنيوية، أو «الكتابة فوق الأنقاض» بالمفهوم الهايدغري، فالتفكيكية نقد لاذع للبنيوية، وقراءة حتمية للبنى الثابتة والعمل على تقويضها للكشف عن المعاني المتعددة واختلافاتها.
الهوامش:
(1) إدريس الخضراوي: الأدب موضوعًا للدراسات الثقافية، منشورات جذور، ط1، 2014، ص 41.
(2) يمكن في هذا الإطار الرجوع إلى كتابه، “الخطيئة والتكفير: من البنيوية إلى التشريحية”، المركز الثقافي العربي، ط 6، بيروت، 2006.
(3) أحمد الأشقر: ضمن مقال “بصيرة العمى في نظرية التفكيك”، القدس العربي، السنة 22، العدد 6587، الخميس 12 غشت 2010.
(4) فخري صالح: النقد والمجتمع [ حوارات مترجمة]، دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية، ط 1، 2004، ص 60.
(5) محمد مفتاح: النص: من القراءة إلى التنظير، منشورات المدارس، الدار البيضاء، ط 1، 2000، ص 26.
(6) جاك دريدا: الكتابة والاختلاف، ترجمة: كاظم جهاد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 1، 1988، ص 49.
(7) المرجع نفسه، ص 47.
(8) صلاح فضل: مناهج النقد المعاصر، أفريقيا الشرق، ط 2، 2013، ص 107.
(9) Roland Barthes, plaisir du texte, édit: seuil, 1973, p10