هل تحتاج الحقيقة إلى كراهية؟ أو في سياسات الشجاعة | فتحي المسكيني

تستغرق 10 دقائق للقراءة
هل تحتاج الحقيقة إلى كراهية؟ أو في سياسات الشجاعة | فتحي المسكيني

لتحميل المقالة : هل تحتاج الحقيقة إلى كراهية؟


1- الشجاعة وكراهية الخطاب

نعثر في محاورات أفلاطون على لفظة قليلة الاستعمال (لم ترد أكثر من ستّ مرات في جملة أعماله) لكنّها مفيدة جدّا لاستكشاف علاقة الناس بما «يقولونه» أو يسمعونه من «خطابات”»؛ ألا وهي لفظة «ميزولوجيا» (misologia) التي تعني «كراهية الخطاب»، والتي لا تعني «عندنا» (für uns) اليوم – حسب تعبير شاع منذ كنط – شيئًا آخر سوى «كراهية العقل». ليس «العقل» غير «الخطاب» الذي له «حقيقة»، وبالتحديد «بالنسبة إلينا». لا يوجد عقل خارج منطقة الخطاب أي خارج «اللغة» بوصفها الاختراع الفذّ للإنسان العاقل (homo sapiens)، والذي تحوّل لاحقًا، وربما ضد مشيئته إلى «مؤسسة» للحقيقة.

إنّ البشر، كما جاء في محاورة «لاكيس» (Lachès) -التي تدور حول مسألة «الشجاعة»، حيث أنّ لاكيس هو شخصية عسكرية معروفة في أثنيا في ذلك العصر، وكان سقراط زميله في الحرب سابقًا (حاربا معا في معركة دليوم سنة 424 ق. م.)- إمّا هو «محبّ للخطابات» أو هو «كاره للخطابات».

قال لاكيس محدّثًا محاوره في حضرة سقراط:

«أمّا فيما ما يتعلق بالخطاب، يا نيسياس، فإنّ رأيي بسيط، أو إذا شئت، مضاعف. فقد يمكن أن يبدو لهذا أو ذاك أنّني أحبّ الخطابات (philologos)؛ كما قد يبدو في عيني غيره أنّني أكره الخطابات (misologos). فعندما أسمع أحدهم يلقي خطابًا حول الفضيلة، أو حول أيّ حكمة أخرى، ويكون إنسانًا حقّا، إنسانًا أهلًا للخطابات التي يقوم بها، فإنّ بهجتي تفوق الوصف عند تأمّل التناغم والتناسق الذي ينطوي عليه هذا المشهد. فهذا الإنسان هو عندي الموسيقي المثالي، الذي لا يكتفي بأن يضع أجمل تناسق في قيثارته أو في أي آلة عادية، بل الذي، في واقع حياته، هو يضع أقواله (logois) في توافق مع أفعاله (erga)، ليس على النمط الأيوني ولا الفريجي ولا الليدي، بل على النمط الدوري الذي هو وحده النمط اليوناني حقًّا. فهذا الصوت يطربني ويمنحني أمام الناس هيئة من هو صديق للخطابات (philologon)، من فرط ما ألتذّ بالكلمات التي يسمعني إيّاها. لكنّ الخطيب الذي يفعل العكس يضجرني، ولاسيّما بقدر ما يبدو مزخرفًا لكلامه؛ وهو ما يمنحني مظهر من هو عدوّ للخطابات (misologon)» (188 ج-ه).

ما يثير هنا أنّ لاكيس هو عسكري، وهذا يعني أنّ أدوات عمله ليست الكلمات بل الأسلحة. صحيح أنّ رجل الحرب هو أفضل من يمكن أن يُسأل عن معنى «الشجاعة»، لكنّه بالتأكيد لن يكون أفضل من يُسأل عن طبيعة موقفنا ومشاعرنا إزاء ما تقوله «الكلمات». هي تقع خارج صلاحيته. علينا أن نرى الحدود الفاصلة بين «الحرب» و«المعنى». ومع ذلك فإنّ أفلاطون وجد دلالة فلسفية في كلام لاكيس عن «الخطابات»، وقد اختار بعناية من يمكن أن يبدو عليه أنّه «يكره الخطاب» بما هو كذلك.

إنّ كراهية الخطاب إذن هي تبدو لأوّل وهلة وكأنّها عمل «حربي»: هي تعليق للعلاقة مع اللغة، والوقوف خارجها. ممّا يفترض أنّ كل ما يكون «خارج اللغة» هو سلاح يمكن أن يُستعمل ضدّ من يتكلّم أو ضد من يقف في منطقة الخطاب. وبهذا المعنى تبدو «الشجاعة» لأوّل وهلة وكأنّها تقع خارج اللغة. الشجاع غير معني بالخطاب. وكان سقراط قد خبر شجاعة لاكيس في الحرب، ولذلك لا يشكّ في قدرته على أن يجيب عن سؤاله «ما هي الشجاعة؟». إلاّ أنّ الحرب تجعل الشجاع خارج منطقة التفكير في شجاعته. وما يريده سقراط هو اختبار قدرة الشجاع على الاحتفاظ بعلاقته بالخطاب، وبالذات حول معنى شجاعته.

وهكذا ما يهمّ الفيلسوف ليس ما يطرحه بوصفه هو «الحقيقة»: هو ليس داعية؛ بل استدعاء «أكثر الناس أهلًا للكلام» حول مسألة ما، واختبار مدى معرفتهم بما يقولونه أو يفعلونه. إنّ المقياس الوحيد لدى لاكيس الشجاع هو «الأهلية» وبالتالي «الجودة» لا غير. من هو أكثر الناس أهلا لأن «يتكلّم» في مسألة ما علينا أن ندعوه إلى ذلك، وأن نفسح له مساحة الخطاب.

لا يعني ذلك أن لا علاقة للشجاعة بالحقيقة، بل فقط أنّ الشجاعة لا تهتم بالحقيقة كما تهتمّ بها الحكمة مثلًا: إنّ ما يثير الشجاع ليس «الكلام» أو «الخطاب» في حدّ ذاته – أي من حيث هو حقيقي أو صحيح – بل فقط من جهة ما يكشف عن قدرة «إنسان حقيقي» على تأمين «توافق» أو «تناغم» بين ما «يقوله» وما «يفعله». علينا أن نرى أنّ الشجاع لا ينظر إلى جميع الناس وكأنّهم متساوون في العلاقة بالخطاب. لكنّ عدم التساوي بينهم لا يأتي من الخطاب نفسه، بل من علاقة خطابهم بأفعالهم. إنّ مقياس العلاقة بالخطاب إذن ليس الخطاب، أي ليس المهارة في «زخرفة» الخطاب، بل في شيء «غير خطابي» أصلًا، ويوجد خارج الخطاب، ألا وهو «الفعل». يفترض الشجاع إذن أنّ الفعل أخرس أو لا يتكلّم أو هو لا يأتي من منطقة الكلام. ومن ثمّ أنّ قيمة إنسان ما أو حقيقته ليست في ما يقوله عن نفسه. ليس للإنسان شيء متميّز كي يخبرنا به؛ لأنّ كل ما سيقوله يقف خارج حقيقته، أي في قدرته على تحقيق «تناغم» بين ما يقوله وبين شيء «آخر» لا يُقال؛ لأنّه «يُفعل». إنّ الشجاعة إذن تنظر إلى الخطاب من خارجه، من المنطقة التي لا تتكلّم فيه، من الطرف الآخر من الإنسان.

إنّ بهجة الشجاع إذن لا تتأتّى من الحقيقة، مثل الفيلسوف، بل من شيء آخر. إنّه لا يطلب أكثر من «مشهد» مثير للبهجة، وذلك فقط لأنّه يؤكّد «تناغمًا» كافيًا بين من يقول وما يُقال.

 قال: «فعندما أسمع أحدهم يلقي خطابًا حول الفضيلة، أو حول أيّ حكمة أخرى، ويكون إنسانًا حقًا، إنسانًا أهلًا للخطابات التي يقوم بها، فإنّ بهجتي تفوق الوصف عند تأمّل التناغم والتناسق الذي ينطوي عليه هذا المشهد».

إنّ ما يثير بهجة الشجاع هو التلاؤم بين «الإنسان» و«الخطاب»، وليس ما يقوله الخطاب. وهذا التلاؤم ليس متعلقًا بالحقيقة بل بنوع من «الجمال» الذي يثير «بهجة لا توصف». إنّ الشجاعة تعوّض الحقيقة بالجمال: إنّ مقياس الحقيقة بالنسبة إلى الشجاع هو مقياس «جمالي» وليس مقياسًا نظريّا. يقف الشجاع إذن على حدود الحقيقة، هي لا تهمّه إلاّ ما تكون جميلة؛ أي قادرة على أن تعِدنا بنوع من البهجة. وهي بهجة لا تمرّ عبر زخرف الخطاب: هي ليست بهجة «بلاغيّة». طبعًا، يبدو الشجاع متعلّقًا هو أيضًا بالسلوك اليوناني تجاه الموجود: هو أيضا حيوان «تأمّلي». وهو يتأمّل خطابات المتكلّمين حول الفضيلة أو حول أيّ حكمة أو معرفة أخرى. لكنّه يتميّز بأنّ موضوع التأمّل ليس حقيقة الموجود بحدّ ذاته، وبالتالي ليس الخطاب نفسه، بل مدى تلاؤم الإنسان مع خطابه: ثمّة رابط على من يتكلّم أن يمتلكه، ألا وهو رابط «التناغم» الذي يشاهده الشجاع بين الخطاب حول الفضيلة وبين الإنسان الذي يخطب حول الفضيلة.

من الواضح أنّ نموذج الوصف هنا هو «موسيقي». وعلينا أن نرى التقابل الذي يمكن أن نلمح ظلاله بين شعار أكاديمية أفلاطون (والذي لا يوجد على كل حال في أي من نصوصه، ولم ينتشر إلاّ بعد عدة قرون من موته؛ نعني «لا أحد يدخل تحت سقفنا من لم يكن مهندسًا (agéômètrêtos)»؛ «علينا»، «تحت سقفنا»، هناك «نحن» هنا ترفض الغرباء أو المندسّين) وبين «الموسيقي». التقابل بين من «يقيس (metrein) الأرض ()» وبين من تحرّكه «ربّات الإلهام (Moûsa)»؛ و«الموسيقي» (mousikós) هو من يزاول فنّ ربّات الإلهام، وهن حوريات إلهية، عُرفن بأنّهن ملهمات كل الفنون وخاصة الموسيقى.

ولذلك يقول لاكيس: «فهذا الإنسان هو عندي الموسيقي المثالي، الذي لا يكتفي بأن يضع أجمل تناسق في قيثارته أو في أي آلة عادية، بل الذي، في واقع حياته، هو يضع أقواله (logois) في توافق مع أفعاله (erga)».

إنّ المثل الأعلى عند الشجاع ليس الفيلسوف، ليس من يدير شؤون الخطاب أو الحقيقة، بل من يحسن إنتاج «التناغم» المناسب، ليس في «قيثارته» – اللحن ليس شيئًا – بل في «واقع حياته»، في ما يكونه، حقًّا؛ لأنّ ما يكونه هو رهين التناغم بين أقواله وأفعاله. ومن ثمّ نكتشف أنّ «الشجاعة» نفسها هي موسيقى أو من طبيعة موسيقية: إنّ الشجاعة لا تُقال. هي ليست سردًا لقصة عن الشجاعة. لا نضع الشجاعة في الأبدان كما لا نضع الألحان في الآلات. هناك شيء آخر علينا أن «نفعله»؛ إنّه «العزف». لكنّه ليس عزفًا بالآلات بل بالحياة نفسها. الشجاعة «واقعة» أو شكل «حياة» شجاعة. وعندئذ فقط يمكننا أن نرى التناغم الذي يشير إليه لاكيس: التناغم بوصفه «واقع حياة» يعيشها «إنسان حقيقي»، أي إنسان «أهل للخطاب» الذي ينجزه. الشجاعة نوع من العزف على حياتنا وذلك بتعريضها للخطر، أي تقريبها من حدودها مع الموت. الشجاع يعزف على موته الخاص بوصفه شكلًا من الحياة.

ولأنّ الشجاع يستعمل حياته وليس حياة شخص آخر فهو لا يمكنه أن «يشجع» بتناغم غريب عنه. هناك انتماء داخلي للشجاعة: لا معنى لشجاعة خارج أفقها، أي خارج لغتها أو خارج قصّتها. وأنت لن تكون شجاعًا لدى شعبين مختلفين بنفس المعنى. ولأنّها فعل من طبيعة موسيقية، فهي تتورّط سلفًا في تجارة مستحيلة ومرعبة مع «الموزات» (Moûsa) أو «ربّات الإلهام» التسع التي تراقبه أو ترافقه داخل «قصّته» (mythos) كما رسمتها الميثولوجيا اليونانية. لا يكون المرء شجاعًا إلاّ داخل قصّته، وتحت إشراف «الموزات» التي تلهمه، وإليها نسب اليونان أشعارهم وفنونهم وإبداعاتهم. ولذلك اشترط لاكيس على الإنسان الحق ألاّ يمارس الخطاب إلاّ مثل «الموسيقي» الجيّد: ذاك الذي لا يعزف ألحانا غريبة عن قلبه: «ليس على النمط الأيوني ولا الفريجي ولا الليدي، بل على النمط الدوري الذي هو وحده النمط اليوناني حقًّا». لقد استبعد النمط «الأيوني» (نسبة إلى «أيونية»، وهي مستوطنة يونانية قديمة تقع بالقرب من إزمير التركية حاليًا، شهدت ولادة الفلسفة وفيها اشتهر هوميروس) والنمط «الفريجي» (نسبة إلى فريجيا وهو إقليم سكنه شعب مجاور لليونان أو سابق عليهم) والنمط «الليدي» (نسبة إلى «ليديا»، وهي أرض في تركيا سكنها شعب سابق على اليونانيين وأثّر عليهم). ولم يستبق إلاّ النمط «الدوري» (نسبة إلى «دوريدا»، وهي لهجة يونانية قديمة، قريبة من اليونانية الغربية الشمالية).

ما يهمنا من هذا التفصيل هو أنّ الشجاع يحتاج دومًا إلى «هوية» بلا موضوع، أي إلى «موسيقى»، وليست أيّ موسيقى بل تلك التي يتمّ عزفها على النمط «الخاص» بشعب ما. ولذلك استبعد لاكيس النمط «الأيوني» رغم ولادة الفلسفة فيها: إنّ مطلب الشجاعة ليس فلسفيًا؛ واستبعد النمط «الفريجي» رغم أنّهم موسيقى الجار: لا يمكن استيراد الشجاعة من شعب آخر؛ واستبعد النمط «الليدي» رغم تأثيره على اليونانيين: لا أحد هو شجاع بالوراثة. ما أراد لاكيس التأكيد عليه هو أنّ الشجاعة مثل الموسيقى هي شيء ننتمي إليه سلفًا. ولذلك هو ليس اختراعًا من لا شيء، بل هي «نغمة» ملائمة لشكل حياتنا، هي إلهام من ربات الإلهام، وليست مجرد معرفة أو سلفة أخلاقية أو إرثًا.

2- كراهية العقل وكراهية الإنسان 

في محاورة «الفايدون» (Phaídōn) (المعروفة لدى القدماء بأنّها تبحث في «خلود النفس») استعمل أفلاطون عبارة «ميزولوجيا» في سياق طريف تمامًا، ألا وهو السؤال عن الموقف الذي يجب أن يتّخذه الفيلسوف من الموت، ولاسيّما أنّه يُفترض أنّ الحوار قد دار في اليوم الأخير من حياة سقراط، وهو ينتظر لحظة شرب السمّ (في يوم من فبراير أو مارس سنة 399 ق. م.). كان سقراط، ودون أن يحرّض على الانتحار، يفهم الموت الخاص بوصفه نوعًا من عودة «النفس» إلى موضعها الأصلي: عالم «التفكير». ومن ثمّ هو يفترض أنّ النفس يمكن أن تكون «خالدة»، وأنّها لن تفنى مع فناء «الجسم».

لم يكن يخيفه أن يفشل في الحجاج ضد من ينكرون خلود النفس بقدر ما كان يحذّر تلميذه من «خطر» أكثر إثارة؛ قال:

«- ولكن قبل كل شيء لنحترس من عناء الشطط (πάθος،pathos  )

– ما هو؟

– هو أن نصبح ممّن يكرهون الخطاب (μισόλογοι، misologoi)، كما نصبح ممّن يكرهون الإنسان (μισάνθρωποι، misanthropoi)؛ إذْ أنّه لا يمكن أن يحدث لإنسان شيء أسوأ من أن يقع في كراهية الخطابات. وإنّ كراهية الخطاب (μισολογία، misologia) هي تأتي من نفس المصدر الذي تأتي منه كراهية الإنسان (μισανθρωπία، misanthropia). والحال أنّ كراهية الإنسان هي تتسلّل في النفس عندما تنقصنا المعرفة فنضع ثقتنا المفرطة في شخص اعتقدنا أنّه صادق، سليم وجدير بالثقة، ثمّ أنّنا، بعد فترة، نكتشف أنّه شرّير وزائف، ثمّ نقوم بنفس التجربة مع شخص آخر. وعندما تتجدّد هذه التجربة غالبًا، وخاصة على أولئك الذين ننظر إليهم على أنّهم من أقرب الأصدقاء وأفضل الرفقاء، فإنّنا ننتهي، تحت تأثير الصدمة، إلى بغض كل الناس، وأن نعتقد أنّه ليس ثمّة شيء سليم مطلقًا لدى أيّ كان» (89د).

أن نكره الخطاب يعني هنا أن نكره ما يقوله «العقل». وذلك يعني أن نكره المساحة التي يبتكرها المتكلّم بين «نفسه» وبين «عقله» بواسطة «الخطاب». ولأنّ «النفس» تميل إلى ما «يراه» الناس صحيحًا فإنّ الرأي السائد غالبًا ما يقدّم خدمة هدم الهوّة بين أنفسنا وبين عقولنا. تلك الهوة التي تأتي منها كل أنواع الخوف ممّا يخالف الرأي السائد. ولذلك فإنّ أشدّ أنواع الخطر هو أن نكره «ما يُقال» حول المسائل التي يكون الرأي السائد قد طمس الطريق إليها تحت الأجوبة المريحة. إنّ المعركة إذن هي مع المزاج وليس مع الحقيقة. ما يعتقده الناس «حقيقيًا» هو في الواقع مجرد حالة مزاجية مريحة تمّ استحداثها من أجل تفادي نوع من الأسئلة التي لا تُحتمل. وينتهي بهم الأمر غالبا إلى «الميزولوجيا» أي إلى كراهية الخطاب الذي يضمر في نفس الكرّة كراهية العقل أو كراهية الحقيقة.

تبدو «الفلسفة» خطابًا مزعجًا لأنّها تقود المحاوِر إلى منطقة مهجورة من «نفسه»: إلى تلك المنطقة التي يصنعها السؤال أو الحوار عندما يعطّل آلة الرأي السائد ويترك مساحة الحقيقة فارغة. ومن هنا فإنّ أكبر خطر حسب سقراط هو أن يلجأ المحاور إلى «كراهية الخطاب» بوصفه منبعًا للخوف. إلاّ أنّ اليونان لم يفرّقوا في لفظة «logos» بين معاني «الخطاب» و«العقل» و«اللغة» و«الحساب» و«التفسير» و«الربط» و«الجمع»، إلخ … ومن ثمّ فإنّ الخوف من الخطاب كان يعني الخوف من مساحات شتى من النفس، منها استعمال العقل خارج منطقة الرأي السائد.

ولكن لماذا وصف سقراط «كراهية الخطاب» بأنّها أسوأ ما يمكن أن يحدث «لإنسان»؟ علينا أن نقرأ ذلك في ضوء التعريف اليوناني للإنسان بأنّه «حيوان قادر على الخطاب» (zôon logôn echôn). ومن ثمّ فإنّ من «يكره الخطاب» هو في الحقيقة «يكره الإنسان»، نعني يكره «ماهية» الإنسان، يكره شكل «النفس» الإنسانية. أي الخطاب. إذْ لم يكن الخطاب مجرّد «أداة» من أجل الوصول إلى شيء خارج أنفسنا. بل الخطاب هو شكل النفس، ومن ثمّ أنّ كره الخطاب هو كره النفس.

من هنا جاء التماثل المزعج بين «ميزولوجيا» و«ميزوأنثروبيا»: بين كراهية الخطاب وكراهية الإنسان. هما تصدران من «منبع واحد»، أي من «كراهية» واحدة، أو من «ماهية» واحدة، بما أنّ تعريف «الإنسان» هو «القادر على الخطاب».

ومن «يتكلّم» لا يفعل سوى إخراج «النفس» بواسطة «الألفاظ».

قال أرسطو في كتاب «العبارة»: «إنّ النبرات التي تخرج عبر الصوت هي رموز عن حالات النفس، والألفاظ المكتوبة هي رموز الألفاظ الخارجة عبر الصوت» (1، 16 أ 3-5).

من يكره اللفظ يكره النفس: إنّ ما ندعوه «ألفاظًا» هو مجرد رموز عن «أنفسنا». ولا يمكن الفصل بين كراهية اللفظ وكراهية النفس التي يرمز إليها.

لكنّ ما يثير هنا هو أنّ تأكيدات سقراط الأخيرة لم تكن مركّزة على تقديم أدلّة أكثر برهنة على خلود النفس بقدر ما كانت مركّزة على المزاج المناسب الذي يجب التحلّي به عندما نخوض نقاشًا حول الحقيقة، أي هنا، حول إثبات خلود النفس بوصفه في علاقة وثيقة مع إثبات ماهيات أو «أشكال» الموجودات من قبيل الجميل والعادل والخيّر. كأنّه لا معنى لخلود تلك الماهيات من دون أن نخلد نحن أنفسنا. وهو مزاج يبدو أنّه مهدّد، حسب تقدير سقراط، بالوقوع في «كراهية الخطاب» أو كراهية العقل، كما يمكن أن نقع في «كراهية الإنسان». ما يخيف الفيلسوف ليس موته الخاص بل أن يفقد الثقة في أهمّية النقاش حول موته: أن يشعر أنّ عنايته بموته ليس لها معنى.

ولكن لماذا يقع الناس في كراهية الخطاب؟

يوحي أفلاطون بأنّ الناس «يرتابون من الخطابات» (77أ) ما إن تبدو في صدام مع «الرأي» العامي الذي «يخشى أنّ الإنسان متى مات فإنّ نفسه تفنى وأنّ ذلك سوف يكون نهاية وجوده» (77ب). ولذلك فإنّ سقراط يصف هذا الارتياب من الخطابات لدى محاوريه بأنّه يشبه «خوف الأطفال» من أنّ «النفس» بمجرّد أن تخرج من الجسم هي سوف تتبخّر فعلًا و«تحملها الريح» (77د). وهنا يردّ أحد المحاورين قائلًا:

«- لنفرض أنّنا خفنا، يا سقراط، وحاول أن تقنعنا، أو بالأحرى، تخيّل، ليس أنّنا شعرنا بالخوف، بل أنّه يوجد فينا ربما طفل تخيفه هذه الأشياء، وحاول أن تقنعه بألاّ يخاف من الموت مثل بعبع.

– قال سقراط: يجب عندئذ أن ننشد له التعاويذ في كل يوم حتى يتمّ طرد الأرواح الشريرة» (77ه).

كيف نفهم الربط الأفلاطوني بين كراهية الخطاب وخوف الأطفال؟ تبدو الفلسفة بمثابة مقاومة لخوف «الطفل» الكامن في العقل العامي من موته. هذا الطفل هو إذن استعارة. كراهية الخطاب هي نوع من الخوف من الموت؛ وهي تأخذ شكل خوف طفولي من أشياء لا تُقال. لذلك يبدو تحذير سقراط من الوقوع في كراهية الخطابات خاتمة غير متوقّعة من نقاش مفصّل حول ضرورة الدفاع عن خلود النفس إذا ما قبلنا بوجود «ماهيات» سابقة ولاحقة على وجود أجسامنا. إنّ الأمر إذن لا يتعلق بخلود «طبيعي» بل بخلود «لغوي»: إنّ خلود النفس ليس الوجود «الطبيعي» بعد فناء الجسم بل الوجود «في الخطاب»، في منطقة «العقل» حيث يمكن مواصلة السؤال حول موتها. ومن ثمّ حيث يمكن للخطاب أن يساعد «الطفل» فينا على التخلّص من خوفه من «الموت»، أي من خوفه من أن «تذهب النفس مع الريح» بمجرّد خروجها من البدن. وحده الطفل يواصل خوفه من الفناء «الطبيعي» للنفس. ولذلك ينبّه سقراط إلى أنّ ما يموت فينا لا يموت مثل «جسم»، بل يموت في منطقة أخرى هي منطقة «الخطاب» حيث يمكن لنا أن نستمرّ في طرح الأسئلة والفحص عن إمكانيات الإجابة الواضحة عنها.

لا يمكن إذن التخلّص من كراهية الخطاب إلاّ إذا ما أحببنا الخطاب بوصفه هو المكان الوحيد لخلودنا.

3- الحقيقة والكراهية: سياسات الشجاعة

نصادف في الكتاب الثالث من محاورة «الجمهورية» سياقًا آخر لطرح قضية «كراهية العقل»: أنّه لا يمكن تربية المواطن على الشجاعة إذا سمحنا بوجود خطابات تكرّس الخوف من الموت (386أ-ب). إنّ الكراهية عندئذ سوف تنبع من تلك المنطقة المظلمة التي ينسجها الخطاب، مثلًا خطاب «الشعراء»، عن المسافة بين الشجاعة والموت. ومن هنا فإنّ ما يقترحه الفيلسوف في «مدينة» الحقيقة هو أن «نراقب أولئك الذين يسردون هذه القصص، وأن نطلب منهم ألاّ يلعنوا أشياء هاديس ظلمًا، بل أن يمجّدوها، وذلك أنّ قصصهم لا هي حقيقية ولا هي صالحة كي تلهم الثقة لمحاربي المستقبل» (386 ب-ج).

لكنّ أفلاطون يذهب أكثر من مجرّد «المراقبة» و«الطلب» بل هو يدعو إلى «محو» كل شعر يخيف الناس من الموت، حتى قصائد هوميروس. لا يجب أن نفهم هذا الموقف بوصفه اعتراضًا جماليًا على «شعرية» تلك القصائد أو متعتها، بل بالعكس: «كلّما كانت تلك القصائد أكثر شعريّة، إلاّ وكان من غير المفيد أن نسمح لها بأن تُتلى على أطفال ورجال هم معدّون كي يعيشوا أحرارًا، ومن ثمّ عليهم أن يخشوا الاستعباد أكثر من خشيتهم الموت» (387ب).

 يوحي أفلاطون ليس فقط بأنّ من أراد أن «يعيش حرًّا» عليه أن يكون «محاربًا»؛ بل أنّ العيش الحرّ سوف يظلّ مهدّدًا من الداخل طالما أنّه يقع تحت خطر قصائد أو خطابات أو قصص تخيف الناس من الموت، عبر قصص «هاديس» أو «الجحيم» التي يقصّها عليهم. لا يكفي أن تحارب حتى تعيش حرّا؛ إنّ الخوف قد يأتي ممّا نقصّه على أنفسنا. وخاصة حول موتنا. قد يأتي الموت إذن في شكل هزيمة سردية، أو شعرية. المطلوب إذن هو طرد كل أسماء الأشباح أو سكّان الجحيم أو أسماء أنهار العالم السفلي حيث يسكن الموتى (مثل نهر «كوكيتوس» Kôkytós؛ بالمعنى الحرفي «الذي يولد من الدموع»، أو نهر «ستيكس» Stúxنهر «الكراهية) (387 ب-ج).

ولكن هل تستطيع أيّ فلسفة أن تطرد الجحيم من اللغة؟ أن تعطّل الموت في مخيّلة المحاربين؟ كيف نفهم خطّة أفلاطون في الربط بين قصصنا عن الجحيم وبين قدرتنا على العيش الحرّ؟

لا يمكن مقاومة قصص الموت إلاّ بسياسة جديدة عن الشجاعة. ولذلك لا يكفي أن نمحو «أسماء» الجحيم من الخطاب حتى نعيش بشكل حرّ؛ إنّ أفلاطون لا يحارب أسماء الجحيم فقط بل هو يدعو أيضا إلى «إزالة المراثي والشكاوى» التي ننسبها إلى «العظماء»: لا يليق بالعظمة أن ترثي أو تشكو. لا يوجد حائط مبكى في مدينة الفلاسفة. والشعار الذي يرفعه هو التالي: «أنّ الكريم لن يرى أنّ الموت شيء مرعب بالنسبة إلى كريم آخر هو صديقه» ( 387د). ولكن كيف نفرغ الشجاعة من الموت؟ أليست في نواتها مجرد استعمال مرعب للموت الخاص؟

إنّ تجريد الشعراء من مهارتهم في سرد قصص الموت هو إجراء احترازي فقط: على الفلسفة أن تمنع تسرّب الموت إلى «حرّاس» المدينة. لكنّ الموت لا يتسرّب في شكل «رعب» فقط، بل إنّ أفلاطون ينبّه إلى جانب مزعج لا يتعلق بالرعب بل بالضحك. إنّ خطر الشعراء لا يمكن فقط في إثارة الرعب بقصص الجحيم بل بنفس القدر في إثارة السخرية من قصص الآلهة التي تتذمّر. ضدّ هوميروس علينا أن نمنع القصائد التي تتحدّث عن أخيلوس ضعيف وتائه، عن إله يبكي! (388د).

ليس القصد هو الدفاع عن حرمة الآلهة لأسباب دينية بل رصد الخطر المحدق بتربية حرّاس المدينة الفلسفية: خطر تعلّم الرعب من آلهة مهزومة. وإن كان ذلك عن طريق الضحك. إنّ «الضحك من الضعف الذي لا يليق بالآلهة» هو درس سيّء لأنّه يجرّد الحرّاس من «جدّية» الخطاب حول الآلهة، ومن ثمّ يجرّدهم من قدرتهم على تحدّي الموت. لا يمكن تحدّي الموت إلاّ بآلهة تقف فوق ضعف البشر. وهذا التخطّي لمستوى البشر هو «الجدّ» الوحيد الذي يميّزهم عنهم. إنّ هزل الآلهة خطر يساوي خطر الموت. وبالتالي يجعل العيش الحرّ أمرًا مستحيلًا.

ولذلك ينتهي أفلاطون إلى منع حرّاس مدينة الفيلسوف من «الضحك» قائلًا: «لا يجب أيضًا أن يكون حرّاسنا من أصدقاء الضحك» (388ه). ولكن لماذا يبدو الضحك خطرًا على الشجاعة؟ هل من طبيعة الشجاعة أن تكون كئيبة؟ ما هو الضحك عند أفلاطون؟

إنّ ما يزعج في «ضحك عنيف» هو أن «يحدث في النفس تغيّرًا عنيفًا بنفس القدر» (نفسه). يبدو الضحك هنا بلا ماهية؛ هو مجرّد مفعول خارجي يؤثّر على حالة النفس، أي على «حقيقتها». ولذلك يرفض أفلاطون تصوّر أناس «عظماء يضحكون»؛ تبدو فكرة عظمة تضحك شيئًا محبّبًا عند الشعراء، لكنّه مزعج بالنسبة إلى «فيلسوف». ولكن لماذا؟

«لأنّه علينا أن نضع الحقيقة فوق كلّ اعتبار. وذلك أنّه … إذا كان الكذب غير مفيد للآلهة، ولكنّه مفيد للبشر، في شكل علاج (φαρμάκου)، فمن البديهي أنّ استخدام هكذا علاج يجب أن يُترك للأطبّاء دون غيرهم، وأنّ العاديين لا يجب أن يلمسوه» (389ب).

إنّ خطأ الشعراء إذن هو استعمال دواء الكذب لعلاج الآلهة والحال أنّهم ليسوا أطبّاء. الكذب بوصفه شكلًا من الضحك الممنوع. ولا يمكن تصوّر مدينة الحقيقة دون ضبط آلة الكذب داخلها، ولاسيّما عندما يتعلق الأمر بقصص الآلهة. علينا أن نراقب كل الخطّ الذي يرسمه أفلاطون من تربية الحرّاس المناسبين لمدينة الفلاسفة إلى حدّ الكذب على الآلهة مرورًا بالضحك من آلامهم. إنّ الحراسة غير ممكنة بحرّاس يسخرون من شكوى آلهتهم. وذلك يعني أنّه لا يمكن تصوّر حراسة من دون شجاعة تتخطّى مستوى البشر، أي من دون شجاعة آلهة. ولذلك يبدو الضحك تغييرًا غير ملائم لطبيعة النفس: هدم لشكل النفس الذي لا يجب أن يتغيّر. إنّ كذب الشعراء يدفع حرّاس الحقيقة إلى الضحك من جدّية الآلهة. ولذلك لا يمكن منع الكذب من دون منع الضحك.

ولكن لأنّه لا يمكن تصوّر بشر لا يضحك، كذلك لا يمكن تصوّر بشر لا يكذب. ولذلك يلجأ أفلاطون إلى استعارة طبيّة: ضدّ الشعراء، هو يعلن أنّ الكذب غير مفيد للآلهة؛ لكنّه من أجل تربية البشر على الحقيقة، هو يحكم بأنّ الكذب مفيد للبشر ، إلاّ أنّه لا يعامل الكذب بوصفه خصمًا للحقيقة، بل بوصفه «علاجًا» مخصصًا للأطباء فقط. إنّ الفيلسوف وحده عندئذ هو طبيب الكذب. ولكن بأيّ معنى؟

علينا أن نذهب مباشرة إلى السياق الذي أتى فيه أفلاطون إلى إثارة «كراهية العقل»، بوصفه العائق الأخير أمام تربية الحرّاس على مطلب الحقيقة.

من الطريف أن نعرف أنّ المطلب الأخير للفيلسوف حسب أفلاطون هو «التربية»، وبالتحديد تربية «حرّاس» المدينة. هو تصوّر حربيّ تمامًا لوجود المدينة: لا يمكن أن تعيش حرًّا من دون حرب. القدرة على حراسة المدينة بوصفها قدرة على الحرب. القدرة على الحرب بوصفها قدرة على الحقيقة. إنّ الفلسفة إذن هي سياسة شجاعة في معنى سياسة تربية الشبيبة على الربط القويّ بين حراسة المدينة وحراسة الحقيقة، بين العيش الحرّ وفنّ الحرب. ولذلك اندفع أفلاطون في وصف فنّ التربية المناسب من أجل خلق حرّاس جيّدين. ليست الفلسفة «تفكيرًا» معزولًا. هي نوع نادر من «الحراسة»: حراسة الحقيقة. الحقيقة بوصفها فن الربط بين استعمال الجسد واستعمال النفس في مدينة العيش الحرّ.

بذلك كان برنامج أفلاطون هو بيان الصلة الملائمة بين «الرياضة» التي تصنع الأجسام «الصلبة» و«القاسية»، وبين «الموسيقى» التي تلطّف النفوس «الرقيقة» و«الرخوة» (410د). إنّ سياسة الشجاعة هي تربية الجسد على أن يكون «صلبًا» دون أن يكون قاسيًا، وتربية النفس على أن تكون رقيقة دون أن تكون رخوة. قال: «إنّ الرقّة علامة على الفيلسوف بالطبع (φιλόσοφος φύσις). إذا تُركت مطلقة العنان جعلته رخوا أكثر من اللازم، ولكن متى أحسن توجيهها، هي تلطّفه وتضبطه» (410ه).

ما معنى أن تكون الشجاعة منزلة قلقة بين الرياضة والموسيقى: بين القسوة والرخاوة، بين الصلابة والرقّة. إنّ الشجاعة إذن ليست مشكلًا جسديًّا. بل هي فن تربية النفس على نوع من اللاوجود الخاص، نوع من المنطقة المهجورة في النفس، ربما كانت هي الحرية على مقاس جسد فانٍ، حيث يمكن للحقيقة أن تنبت بعيدًا عن قصص الجحيم.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.