لِمَ ينبغي اليوم قراءة كتاب «عزاء الفلسفة»؟ | جون مارينبون

تستغرق 9 دقائق للقراءة
لِمَ ينبغي اليوم قراءة كتاب «عزاء الفلسفة»؟ | جون مارينبون

تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة

الآراء والأفكار الواردة في المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط

لتحميل المقالة : لِمَ ينبغي اليوم قراءة كتاب «عزاء الفلسفة»؟

كان كتاب «عزاء الفلسفة» لبوئثيوس من الكتب الأكثر تداولاً في أرجاء أوروبا على امتداد ألف عام تقريبًا. لم يقتصر نطاقُ قراءته على من استوعب أصله الذي كُتب بلاتينية القرن السادس؛ بل جاوزه إلى أولئك الذين درسوه في أيًّ من ترجماته العديدة إلى الإنجليزية القديمة، والوسطى، والفرنسية القديمة، والألمانية القديمة، والإيطالية، والإسبانية، واليونانية، والعبرية، والعديد من اللغات الأخرى رغم سيطرة متون أرسطو على مناهج الدراسة الجامعية، وانتشار فكر أوغسطين  انتشارًا واسعًا في الفترة الممتدة بين عامي 800 و1600م تقريبًا، لم يكن بمقدرة أي متن فلسفي مجاراة «عزاء الفلسفة» في جاذبيته، ليس للنخب المثقفة فحسب، بل لجمهور القراء كذلك.

أما الآن، لا يتداول الكتاب سوى علماء القرون الوسطى؛ إذ لا يبدو أنّه ينطوي على جاذبية فلسفية واسعة للقراء -بخلاف «محاورات» أفلاطون أو «تأملات» رينيه ديكارت مثلًا- ولكن إنْ قُرِئ الكتاب بعناية في سياقه التاريخي والأدبي؛ فينبغي أن يحوز هذه الجاذبية. إنَّ «عزاء الفلسفة» أعقد مما يبدو عليه من الوهلة الأولى، ومع أنّ قراء العصور الوسطى -عمومًا – لفت نظرهم جوانبَ الكتّاب الواضحة؛ إلا أن تعقيداته وجوانبه الخفية هي التي قد تعيد جاذبيته لقرّاء اليوم.

إنّ «عزاء الفلسفة» هو حصيلة الظروف الدرامية التي أنهت حياة مؤلفه. لقد وُلِدَ بوئثيوس حوالي عام 476م، وكان ينتمي لعائلة رومانية غنية عريقة، وعاش معظم حياته مستمتعًا بامتيازات طبقته الاجتماعية؛ إذْ شارك في محافل علية القوم، وكتب الرسائل والحواشي في الرياضيات، والموسيقى، والمنطق، مستفيدًا من دراسته الثقافة اليونانية، وكان يشارك في الجدال حول القضايا اللاهوتية رغم أنه لم يكن قِسًّا، لكن ولادته تزامنت مع بداية حكم القوط الشرقيين في إيطاليا.

سعى الملك القوطي ثيودوريك إلى بناء علاقات طيبة مع المواطنين الرومان الأرستقراطيين، لكنهم ظلوا يشكلون تهديدًا له. وفي بواكير عام 520م دعا الملكُ بوئثيوس، وقلّده منصب «رئيس مستشاري البلاط»، وهو أهم مناصبه، قَبِلَ بوئثيوس، ولكنَّ تصميمه على استئصال الفساد سرعان ما خلق أعداءً له؛ فقد كان ثيودوريك متشككًا بتآمر بوئثيوس ضده؛ إذ أُدين بالخيانة وتُهمٍ أخرى، وسُجِن بوئثيوس منتظرًا حكمَ الإعدام. وحينئذ كتب «عزاء الفلسفة» جاعلًا من ظرفه – سجين ينتظر حكم الإعدام – ظرف الكتاب نفسه.

الكتاب محاورة بين السجين بوئثيوس مع الفلسفة التي تجسدت على شكل امرأة جميلة تظهر له في زنزانته. ظهرت المحاورة بصورة نثرية، تتخللها قصائد تُلَخِّص الحجة الأساسية في النقاش، أو تعلق عليها، أو تشرحها، أو توضّح جانبًا منها، أو تقدّم منظورًا مختلفًا لها.

لم يكن بوئثيوس السجين قادرًا في البداية على فعل شيء  سوى النحيب على الانهيار الفجائي من عليائه، ويُوضّح للفلسفة مستطردًا ظلم التهم الموجهة إليه. والفلسفة لم تبدِ تعاطفًا مع ذلك أبدًا؛ إذ أخبرته أنه لو كان تذكر تعاليمها؛ لم يكن ليتذمر كما يفعل الآن وأنَّ الإله لا يكترث بالبشر، وأنَّ الأخيار يعانون بينما الأشرار يعيشون في حبور، وشرعت في الإجابة عن هاتين التهمتين.

أوضح جوانب حجّة الفلسفة أخذت الشكل التالي- تمامًا مثلما يفعل الطبيب- بدأت الفلسفة بعلاجات لطيفة، ثم لمّا أصبح المريض جاهزًا للأدوية الأقوى،  باشرت باستخدامها إياها. بدأت بقولهاإنّ السجين لا ينبغي أن يلوم الحظ على زوال الهِبات التي صادف أن قدمها له، كما أنَّ خيرات الحظ ليست خيرات حقيقية؛ إنّ عجلة الحظ تدور بصورة حتمية، ولا ينبغي أن يتوقع المرء بقاءه في القمة متنعّمًا بأجود ما تقدمه الحياة له. بصورة تدريجية، ترشد السجين لرؤية أنَّ كل خير يأتي من منبع واحد، وهو الخير الأسمى، ألا وهو الله، ولن ينال المرء السعادة الحقّة إلا إنْ تمسّك بهذا الخير.

باتّباع نمط الجدل في محاورة أفلاطون «جورجياس»، توضح الفلسفة مستطردة أنه بالفعل الحسن نحقق ما نبتغيه، ونحوز السعادة، وبالفعل الخبيث نحوز التعاسة، فلا الصالحون مضطهدون حقيقةً، ولا الأشرار يعيشون في حبور حقًا. إن الله يهتمّ بالبشر؛ إذ وضع نفسه «غاية» لهم، وبالسعي نحو الوصول إليه؛ ينال البشر السعادة. وتستطرد بقولها إنّ الإله يعتني بالبشر،  وإن كانت أكثر غاياته من ذلك خفية.

يرد السجين بوئثيوس بإثارة مشكلة منطقية إذا كان الله قد تنبّأ بكل الأحداث المستقبلية -كما تقتضي العناية الإلهية فكيف تبدو أيً من الأحداث عرضية؟ إذا لم تكن كذلك، وكل شيء يقع ضرورةً؛ إذن، لن تكون هناك مسؤولية أخلاقية عن الفعل الحسِن أو القبيح فلو كان كل شيء محددًا مسبقًا، لن يكون هناك مجال للاختيار ترد الفلسفة بحجة معقدة، مستخدمةً فكرة أنَّ وجود الله في الأبدية لا يقاس بمعيار الزمن، تزعم الفلسفة أنَّ الأحداث المستقبلية يصح أن تكون عرضية، ويعرفها الإله ضرورةً.

أكثر ما يلفت النظر في هذا النقاش برمته ليس فيما قِيل، بل فيما لم يُقال. فبوئثيوس مسيحي يواجه الموت، لكن في «عزاء الفلسفة» لا توجد سِمة تدل على المسيحية؛ إذْ تمثّل الفلسفة تقاليد الفلسفة الوثنية التي تعود إلى أفلاطون وأرسطو وما قبلهما، وتلتزم بها التزامًا صارمًا، وكانت – وما تزال – تعلّم في زمن بوئثيوس في المدارس الأفلاطونية في أثينا والإسكندرية، ولم ينحرف السجين عن منظورها. لاحظ قُرّاء العصور الوسطى هذه السِّمة، ولكن أكثرهم لم يسمحوا لذلك بتعقيد استيعابهم للنص.

كان مفكرو ذاك الزمن ينزعون إلى القول بتوافق إله أرسطو والأفلاطونيين القدامى مع إله المسيحية. وبعض قُرّاء «عزاء الفلسفة» مثل المحققين المبكرين في السنوات التي أعقبت موت بوئثيوس، وألكوين (Alcuin) في مطلع القرن التاسع، منحوه طابعًا توراتيًّا صريحًا، وذلك بواسطة مماهاة الفلسفة مع سليمان الحكيم. معظم هؤلاء كانوا لا يرون بأسًا من عدّ تعاليم «عزاء الفلسفة» منسجمة مع المسيحية، حتى وإنْ لم تكن مسيحية بصورة جلية؛ إذْ بدا لهم – بصورة مضللة – أنَّ عالم «عزاء الفلسفة» الثقافي مألوف، وقد نسبوا لمؤلِّفه سهولة التوفيق بين الفلسفة القديمة والعقيدة المسيحية، وذلك أمرٌ محتمل لبعد الزمن عن العصور القديمة، ولكنه ليس بعيدًا عن زمن بوئثيوس الأكثر اضطرابًا.

لكن ثمّة استثناءات، فبوفي – رئيس دير كورفي في القرن العاشر – استهجن التعاليم الوثنية في«عزاء الفلسفة»، ونقدٌ أخفى نجده في نهايات القرن الرابع عشر عند جيفري تشوسر (الذي أحب «عزاء الفلسفة»، وترجمه إلى الإنجليزية)، إذ جعل الكتاب مرجعًا ممتازًا لكيفية استخدام شخصيات وثنية للفلسفة أو بشكلٍ أكبر إساءة استخدامهم لها؛ مثل: شخصية ثيسيوس في «قصة الفارس»، وشخصية ترويلوس في «ترويلوس وكريسيدا».

يبدو أنَّ تشوسر كان متميزًا من بين مجايليه عندما أدرك أنَّ بوئثيوس أراد إثبات أمر في غاية الأهمية باختياره شخصية الفلسفة الوثنية  شخصيته المرجعية. أما بالنسبة لقرّاء اليوم البعيدين عن وهم الألفة الثقافية [الذي قد يطرأ لقراء العصور الوسطى]، وبالاستفادة من البحوث الحديثة؛ فإنْ دلالة الاختيار لا بد أن تكون واضحة لهم.

نعرف أنَّ  الفلسفة الوثنية لبوئثيوس وقرّائه المعاصرين المتوقعين لنصّه، كانت – وما تزال – واقعًا قائمًا؛ فمع أنهم كانوا جميعًا مسيحيين؛ إلا أنهم كذلك كانوا يعون أنهم حماة العالم القديم ما قبل المسيحية، وبالتحديد حماة التقاليد القديمة في التعلّم، والقانون، والذوق.

في رأيهم، إنّ اختيار شخصية تمثّل الفلسفة الوثنية بوصفها المتحدث صاحب المرجعية، والتي من شأنها أن تحدد آلية الحوار مع السجين المسيحي، ستصوغ كيفية فهمنا لـ«عزاء الفلسفة».كان سيفهم الكتاب على أنه يدور حول العلاقة بين تقليد الفلسفة القديمة والإيمان المسيحي، وعلى نحو يتحدى القراء -كحاورات أفلاطون عن محاكمة سقراط وإعدامه – سيفهم الكتاب على أنه يطرح سؤالًا حول منح المرء معنى لحياته والموت يدنو منه، بعون تعلّمه الفلسفي، ولكن دون نشدان السلوى من عقيدة الدين المسيحي.

ما زال هذا السؤال يقلقنا؛ إذْ يسعى المؤمنون وغير المؤمنين على حدٍ سواء إلى الحصول على أجوبة عن كيفية العيش، ونحن نوقن بموتنا، لكن بؤثيوس المؤلِف يُجيب بإجابة تتسم بالتعقيد وتعدد الأوجه، مما يجعل «عزاء الفلسفة» أسهل وأقرب لقرّاء الزمن الراهن أكثر من معاصريه.

في قراءة مباشرة لكتاب «عزاء الفلسفة» تُعَدُّ حجة الفلسفة مقبولة ونافذة في نظر بوئثيوس السجين والمؤلف. إذا كان الأمر كذلك، فإن «عزاء الفلسفة»  -مثل محاورات أفلاطون حول إعدام سقراط- تشديدٌ جريء على قوة العقل البشري الذي لا معين له حتى في مواجهة الموت، ولكنَّ الحجج الفلسفية المحورية ستبدو في غاية الضعف خصوصًا للقارئ الحديث في تدعيم زعمها، وقد يُطرح الاعتراض نفسه على محاورة أفلاطون- «فايدو»، ولكن ثَمَّ مسوّغ نرى به أنَّ هذه القراءة المباشرة لا تنصف «عزاء الفلسفة».

كان القرّاء القدامى على وعي تامّ بالجنس الأدبي (الجنرا)؛ إذ وجّه تصوراتهم حول ما أراده المؤلف من كتابته، وقد أشار بوئثيوس إلى أنَّ الكتاب هجاء منيبوس [نسبة إلى منيبوس الكلبي] بكتابة «عزاء الفلسفة» مُناوبًا بين النثر والشِّعر. فكما بيّن جول ريليهان في كتابه «الهجاء المنيبوسي القديم»، إنّ هذا النوع من الهجاء يسخر من رموز السلطة؛ لذلك قد لا يتوقّع من قرّاء«عزاء الفلسفة» تناول تعليمات الفلسفة باحترام تام.

انطلاقًا من هذه المسألة جاء ريليهان في كتابه:» فلسفة السجين (2007) (The Prisoner’s Philosophy) بقراءة تتعارض تمامًا مع القراءة المباشرة؛ إذ يقول إنّ الفلسفة فشلت في تقديم العزاء للسجين، وهذا الفشل كان أسلوب بوئثيوس في كشف ضعف العقل البشري، ومفادُ الرسالة المضمرة هو أنَّ الإيمان المسيحي دون غيره هو القادر على توفير العزاء الذي سعى السجين بوئثيوس – مخطئًا – أن يجده في الفلسفة.

إنَّ هذا النوع من القراءات يعدّ كل حجج «عزاء الفلسفة» مجرد أدوات بلاغية ابتدعها بوئثيوس المؤلف من أجل بيان قصورها، والرسالة المحورية تم توصيلها بأسلوب غير مباشر، ولكن من الصعب الاقتناع بهذه الرؤية: أكان بوئثيوس – الذي كرس حياته للفلسفة – يتناول الحجج على هذا النحو؟ لِمَ إذن، على وجه الخصوص، يستطرد في نهاية الكتاب حول الحجة المعقدة عن سبق العلم الإلهي والإمكان إذا كان مراده مقصورًا على بيان عدم كفاية الفلسفة وفاعليتها في تعزية الإنسان؟ رغم أنَّ قراءة ريليهان تثير أسئلة مهمة، إلاّ أنها غير مقنعة في نهاية المطاف.

توجد وجهة نظر أكثر إقناعًا مفادها أنَّ بوئثيوس المؤلف أراد أن تؤخذ حجج الفلسفة على محمل الجد، وبذل وسعه لتعضيد بِنيتها الحجاجية، ولكنه أراد كذلك أن يشير إلى أنّ هذا الحجاج قاصرٌ عن كشف الحقيقة كاملةً، وقد بيّن ذلك بواسطة التوترات التي تركها في البنية الحجاجية لكتاب «عزاء الفلسفة» في كلّيته؛ إذْ توجد ثلاثة مناطق متواشجة تبيّن هذا التوتر: الأولى حول سعادة الإنسان، والثانية: حول العناية الإلهية ومعاناة الصالحين، والثالثة: حول حريّة الإنسان.

قدّمت الفلسفة رؤية معقّدة عن السعادة الإنسانية، ولم يقتصر تقديمها لذلك على إجاباتها المُسكّنة الأولية والسهلة؛ بل امتدْ ليشمل جزءًا كبيرًا من الكتاب. لقد نبذتْ قيمة  كثير من خيرات الحظ التي يسعى إليها معظم الناس -كالترف، والمناصب الرفيعة، والممالك، ومدح الناس، والمتع الحسية- إذْ ترى أنَّ طلب أي من هذه المكاسب محاولة ضالّة لنيل الخيرات الحقيقية مثل: الرضا، والاحترام، والقوة، والمجد الخالد، والبهجة. إنّ امتلاك هذه الخيرات الحقيقية -التي لن تُسلب من المرء حتى ولو كان في السجن- أمر جوهري للسعادة، لكنَّ بعض خيرات الحظ، مثل الأشخاص الذين يحبهم المرء، مقبولة لكونها ذات قيمة خالصة. ولكن من منتصف الكتاب فصاعدًا، تقترح الفلسفة وجهة نظر مختلفة تمامًا عن السعادة. حيث تجادل فتقول إنّ نيل السعادة ليس بامتلاك مجموعة مُركبّة من الخيرات؛ إنما بواسطة الخير الأسمى، الذي قُدِّمَ بصفته واحدًا، وحُدّد بأنه الله. إنّ الخيرات الفردية التي يطلبها الناس عادةً معدومةُ القيمة في نفسها، وتُشتيت عن طلب الخير الحقيقي.

ووجهة نظر الفيلسوف الإغريقي جورجياس حول سبب  كون الأخيار لا يعانون، والأشرار لا يفلحون، تناسب هذا النهج. فحسب وجهة النظر تلك، فإنّ الله لا يتدخل في مجرى الأحداث ولا في تنظيمها؛ بل بالتمسّك بالله – الخير الأسمى – بوصفه الغاية، سينال البشر السعادة، وبالبعد عنه، والعيش في حياة فاسدة، يعاقبون أنفسهم؛ بل وتشدد الفلسفة على أنهم يوشك أن يهلكوا، لكنَّ بوئثيوس السجين – الذي قَبِلَ طواعية استدلال الفلسفة برمته – يعترض على النتائج المخالفة للبداهة لموقفها؛ إذْ يسأل السجين: أيُ حكيمٍ سيفضل أن يكون مفلسًا ومبغوضًا ومنفيًا، بدلًا من البقاء في مدينته يعيش حياة مزدهرةمتنعمًا بثروة هائلة، وموقّرًا، وقويًّا في سُلطته؟

رغم أنَّ الفلسفة كان بمقدورها الرد بسهولة على السجين من خلال إعادة تأكيد موقفها، وإلقاء اللوم على السجين لنسيانه المغزى من كلامها؛ إلاّ أنها اختارت الانصراف عن حججها السابقة، وقدّمت –كما أشرنا سابقًا- وجهة نظر مختلفة تمامًا عن العناية الإلهية. فحسب وجهة النظر هذه نظّم الله مسارَ التاريخ  كله من أجل حفظ الخير، والقضاء على الشر، ولكن يبدو أنَّ  للإله هدف في ازدهار الأشرار، ربما من أجل مساعدتهم على الندم والتوبة، أو لاستخدام الأذى الذي يلحقونه بالآخرين عقوبة لمن يستحقونه، أو لامتحان الأخيار، وجعلهم أسمى.

تستثني الفلسفةُ إرادةَ الإنسان الحُرّ من سُلطة العناية الإلهية التي تشرحها هنا، ولهذا فإنّالاعتراض التالي والأخير الذي أعدّه بوئثيوس السجين – ومفاده أنَّ سبق العلم الإلهي لا يتوافق مع الاحتمالات المستقبلية– في غاية الأهمية. إذ يتطلب الكمال الإلهي أن يكون عالمًا بكل شيء. وعليه، فالله لا يعرف ما حدث ويحدث فحسب؛ بل وما سيحدث، بما في ذلك أفعال إرادتي المستقبلية، ولكن إذا كان الله يعلم ما سأنوي فعله في الغد – على سبيل المثال: أنني سأنوي شرب فنجانَ قهوةٍ عندما أستقيظ  فسيبدو أنني لست حرًّا في أن أنوي عكس ذلك.

وهذا سبب  كون سبق العلم الإلهي يعدّ تهديدًا للإمكانيات المستقبلية في غاية الأهمية؛ إذْ إنه يصطدم بحريّة الإرادة، وكذلك من وجهة نظر بوئثيوس على الأقل -التي يشاركه فيها  كثير من الفلاسفة- يصطدم بأساس المسؤولية الأخلاقية. تقدّم الفلسفة إجابة مستفيضة لهذه المعضلة، و ترد على الاعتراضات التي قدمها بوئثيوس السجين لحلول متباينة. ولكن حتى لو كانت إجابات الفلسفة سديدة؛ فإنها تواجه صعوبة أكبر وأعمق مما سبق ذكره.

يُعلق السجين بوئثيوس مستطردًا -وتقبل الفلسفة تعليقه- أنَّ علم الله يختلف عن علمنا من ناحية بالغة الأهمية: عندما نعرف شيئًا ما، فإنّه كذلك باستقلال عن اعتقادنا بأنه كذلك، فاعتقادنا يتعقّب كيفية الأشياء تعقبًا صائبًا والتي قد تصبح معرفة. ولكن بالنسبة إلى الله، فحال الأشياء كذلك؛ لأنه يعرفها؛ فمعرفة الله لا تتعقب الواقع، بل تجلبه كما هو. لو كان ذلك كذلك، ما زال الله – وليس نحن – هو من يكوّن نيتنا، حتى لو حللنا اعتراض السبق الإلهي؛ نظرًا لأنه يعرف نيتنا. قرب نهاية الكتاب، تزعم الفلسفة أنَّ حلّها لمسألة سبق العلم الإلهي تحلّ هذه المسألة أيضًا، ولكن ما تقدّمه توكيد، وليس حجّة: «إنّ قوة هذه المعرفة التي تَضُم الأشياء جميعًا في فهمٍ حاضرٍ هي نفسها التي أنشأت مقياس الوجود لكل الأشياء، ولا تَدِين بأيِّ شيءٍ لأي شيءٍ أدنى منها».

لعل بوئثيوس المؤلف لم يكن على وعي بهذه التوترات في البنية الجدلية ل «عزاء الفلسفة» نظرًا لاقتراب حكم إعدامه، فربما لم يكن لديه المجال للتأمل في كتابته أو مراجعته بعناية، إلا أنه بالنظر إلى اختياره جنسًا أدبيًا يشكك في السلطة، فالراجح أنَّ الحجج مدروسة بدقة، وأنها وٌضعت من أجل بيان كون الفلسفة قادرة بالفعل على مواساة حتى المسيحي المحكوم عليه بالإعدام بوئثيوس، ولكن مواساتها تصل إلى حد معيّن.

إنّ التفكير التأملي البشري العقلاني الخالص قادرٌ على تحقيق قدر من الفهم لا بأس به، لكنه عاجز عن تحقيق فهم متماسك تام لانسجام العناصر المتباينة معًا في الكون الذي نظمه الله. ضمنيًا، إذن، شُكّل سرد المؤلف بوئثيوس من أجل تمكين السجين من أن يخطو إلى ما وراء العزاء الفلسفي، لكنَّ هذه الخطوة تمنح تعضيدًا للفلسفة، وليس دحضًا لها. وقد نوّهت الفلسفة نفسها بذلك أكثر من مرة، ومن وجهة نظر وثنية حين أشارت إلى قصورها بصفتها معلمة.

يعزز هذه القراءة جانب من النقاش حول أنَّ سبق العلم الإلهي غالبًا ما يُغفل عنه. من المناقشة بين الفلسفة والسجين، يبزغ ما يلي باعتباره نواة المسألة: “إن الأحداث المستقبلية الممكنة غير مؤكدة وغير ثابتة بطبيعتها، إلا أنه لا يُعرف إلا ما هو ثابت ويقيني. حتى لو كان الله دائمًا على صواب في التنبؤ بالأحداث المستقبلية، فإنّ ادعاءه بمعرفتها لا بد أن يكون خاطئًا. تعترض الفلسفة على هذا الاستنتاج بتوكيدها على مبدأ مفاجئ جدًا: «كل ما يُعرف فإنما يُعرف وفقًا للقدرة المعرفية للعارف لا لطبيعة الشيء المعروف».

كما هو مستخدم في النقاش اللاحق، هذا المبدأ يجعل المعرفة نسبية للعارفين بناءً على قدراتهم الإدراكية. تدرك حواسنا الجسدية وعقولنا وعقل الإله مُعطىً معينًا بطرق مختلفة، وتصل إلى حقائق متباينة ستكون متضاربة ما لم تُنسّب. إنّ الإنسان فرد، كما تستوعبه الحواس، لكنه كوني، كما يدركه العقل. إنّ اختياري غدًا باستخدام إرادتي الحرّة هو حدث ممكن من وجهة نظري ومنظور البشر الآخرين، إلا أنه حدث ضروري من وجهة نظر الإله في الأبدية.

خلافًا لأكثر النسبويين اليوم، فإنَّ نسبية بوئثيوس هرمية: العقل يفهم الواقع بشكل أفضل من الحواس، والعقل الإلهي يفهمه أفضل من العقل. تتطلب النسبية الهرمية من البشر تواضعًا معرفيًّا إذ ينبغي أن نتواضع بشأن الوصول إلى معرفة الحقيقة. بغض النظر عن مدى تقديرنا للعقل البشري، ينبغي أن ندرك أيضًا، أن العقل محدود بحكم طبيعته، وأن التفسير النهائي للكون لن يتاح إلا لقوى إدراكية تفوق قدرتنا الإدراكية.

كانت قراءات العصور الوسطى لكتاب بوئثيوس تميل نحو تبسيط قوة وشدة رسالته، وذلك بجعل حججه تنسجم بكل سهولة مع الثقافة المسيحية التي يتشاركها الناس في ذلك الزمن مع المؤلف. يفصل قراء اليوم عن كتاب«عزاء الفلسفة» حين من الزمن يخوّلهم لقراءته بدقة أكبر من سياق زمن بوئثيوس، واكتشاف الخواص المشتركة بين تفكيرنا وتفكير بوئثيوس.

بمقدورنا أن نرى كتاب «عزاء الفلسفة» بوصفه دفاعًا شديدًا عن العقل البشري في مواجهة الظلم وعنف الموت الوشيك، إلا أنه كذلك يكشف عن قصور العقل. تلقى السجين بوئثيوس شيئًا من العزاء من الفلسفة، لكنَّ أهم درس تعلّمه كان التواضعُ المعرفي.

المصدر (وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى ومجلة إيون). 

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.