تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
الآراء والأفكار الواردة في المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط
لتحميل المقالة: الوعي حقيقة
من الرائج في هذه الأيام وصف الوعي بأنه «وهم»، مما يعزز بدوره الانطباع -خاصةً بين عامة الناس- بأنَّ الطريقة التي نرى بها عادةً حياتنا الذهنية قد بيَّن العلم أنها خاطئة بشدة. رغم صحة ذلك في إطار مُحدَّد تحديدًا دقيقًا بين أهل الاختصاص؛ إلا أن الوعي –في نظري- ما زال السمة المتطوِّرة الأكثر تميزًا للإنسانية، التي لا تمكننا فحسب من اختبار العالم على غرار الأنواع الحيوانية الأخرى، ولكن تمكننا كذلك من التفكير بتأنٍ في خبراتنا وتغيير مسار حياتنا بتعمد وفقًا لذلك.
يعود كثير من الالتباس -كما سنرى- إلى ما نعنيه تحديدًا بكلمتي «الوعي» و«الوهم». من أجل إصلاح أفكارنا إصلاحًا مفيدًا -بدلاً من التنقل بين أدبيات فلسفة الذهن وعلم الإدراك- تأمَّل في المقال الرائع الذي نشرته إيون لـكيث فرانكيش. يبدأ المقال بالتمييز بين «الوعي الظاهراتي» و«وعي الوصول»؛ فـ«الوعي الظاهراتي» هو ما يُنتِج الخاصية الذاتية للخبرة، ما يسميه الفلاسفة بـ«الكواليا». وهذا ما يتيح لنا -وربما لعددٍ من الأنواع الحيوانية الأخرى- اختبار ما تبدو عليه تجربة، على سبيل المثال، رؤية اللون الأحمر، أو تذوّق فاكهة الكاكي، أو كتابة مقالات عن فلسفة الذهن.
أما «وعي الوصول» فيتيح إدراك الأشياء إدراكًا حسيًا. كما يذكر فرانكيش، إنَّ «وعي الوصول» هو ما «يجعل المعلومات الحسية متاحة لبقية الذهن، ومن ثم “إليك”؛ الشخص الذي تشكِّله هذه الأنظمة الذهنية المتجسِّدة». فقبل أن تتمكن من اختبار ما تبدو عليه تجربة رؤية اللون الأحمر، يجب أن تكون قادرًا على رؤية اللون الأحمر أصلًا. يوافق فرانكيش على أنَّ «وعي الوصول» هو شيء حقيقي، وليس وهمًا، على الرغم من أنه يضيف على نحوٍ صحيح أننا لا نزال في وقتٍ مبكر جدًّا في سعينا لفهمه علميًا. ربما يكون الجانب المعروف لـ«وعي الوصول» أكثر من غيره هو الجهاز البصري، وهو جزء من الجهاز العصبي المركزي الذي يتيح لنا رؤية العالم؛ إذْ إننا نعرف قدرًا ليس يسيرًا عن الجوانب التشريحية والفسيولوجية والبيولوجية العصبية لهذا النظام، ومن المعقول أن نفترض أنَّ المكونات الأخرى لـ«وعي الوصول» تعمل بطريقة مماثلة، وأنَّ العلم يمكنه -على الأقل من حيث المبدأ- فهمها من خلال المقاربات الرصدية والتجريبية المماثلة.
لكن -كما يرى فرانك- سيقول عدد من الفلاسفة: وإن سلَّمنا أنَّ لدينا وصفًا كاملًا لـ«وعي الوصول»، فسيبقى هناك شيء ناقص جوهريًّا من تصورنا الكلي للوعي. هذا الجزء –«الوعي الظاهراتي»– هو أساس ما تبدو عليه تجربة ما، أو -كما قال توماس ناجل في ورقته الكلاسيكية- «ما تبدو عليه تجربة أن تكون خفاشًا؟» (1974).
هنا يحدث الانقسام الأساسي في فلسفة الذهن بين «الثنائيين» و «الوهميين». يتفق كلا المعسكرين على أنّ للوعي ما هو أكثر من جانب الوصول، وأيضًا أنَّ «الوعي الظاهراتي» يبدو أنه يمتلك خصائص غير فيزيائية (سمة: «كيف يبدو؟»). وعليه، يمكن للمرء أن يسير في اتجاهين مختلفين للغاية: يتمثل الطرف العلمي للمعضلة في السعي إلى تفسير كيف يمكن للعلم أن يزودنا بتفسير مُقنع للـ«وعي الظاهراتي»، كما يفعل فرانكيش؛ أو الطرف المعادي للعلم، ويتمثل في الادعاء بأنَّ «الوعي الظاهراتي» خارج مجال اختصاص العلم تمامًا، كما يقول بذلك دافيد تشالمرز على امتداد معظم حياته المهنية، كما في كتابه «الذهن الواعي» (1996م).
من خلال تبني الموقف المعادي للعلم اضطر تشالمرز ومن تبنى موقفه إلى التحوّل إلى النزعة الثنائية. والثنائية هي فكرة مفادها أن الظواهر المادية والذهنية متعارضتان بطريقة ما، فهما نوعان مختلفان من الوحوش -إن جاز التعبير-. ونجد في تاريخ الفلسفة أن الثنائية تُعنى بالجواهر؛ وفقًا لرينيه ديكارت، يتكون الجسم من مكون مادي (باللاتينية، res extensa)، في حين يتكون الذهن من مكون ذهني (باللاتينية، res cogitans). في الوقت الحاضر بفضل التقدّم الذي أحرزناه في كل من الفيزياء والبيولوجيا، لم يعد أحد يأخذ ثنائية الجوهر على محمل الجد. البديل هو رأي يسمى «ثنائية الخاصية» التي تقر بأن كل شيء –الجسم والذهن– يتكون من المكون الأساسي نفسه -الكواركات وما إلى ذلك- ولكنَّ هذا المكون بطريقة ما -(لاحظ الغموض هنا)- يتغير عندما تنتظم الأمور في الأدمغة، وتظهر خصائص خاصة لا توجد في أي مكان آخر في العالم المادي. (للاطلاع على المزيد من المعلومات حول الاختلاف بين ثنائية الجوهر وثنائية الخاصية، راجع تعريف سكوت كاليف).
في المقابل يسلك «الوهميون» الطريق العلمي، ويقبلون بالنزعة الفيزيائية، أو المادية، أو أي «نزعة» أخرى مشابهة، مما يعني أنهم يعتقدون –مع العلم الحديث– أنَّ كل شيء مصنوع من المكون الأساسي نفسه، وليس هذا فحسب، وإنما لا توجد حواجز خاصة تفصل الظواهر المادية عن الذهنية. ومع ذلك، نظرًا إلى أنَّ هؤلاء الناس يتفقون مع الثنائيين على أنَّ «الوعي الظاهراتي» يبدو شبحيًّا، فإنَّ الخيار الوحيد الذي أمامهم يبدو أنه إنكار وجود أي شيء يبدو أنه ليس فيزيائيًّا. ومن هنا جاءت فكرة أنَّ «الوعي الظاهراتي» وهم.
وصف غالين ستراوسون النزعة الوهمية بأنها «أسخف ادعاء قُدِّم على الإطلاق» في مراجعات مجلة نيويورك للكتب العام الماضي، ولكن دافع عنها فلاسفة بارزون آخرون، أبرزهم دانيل دينيت؛ بل يصح القول إنَّ دينيت هو الذي بدأ هذا التوجه في أوائل التسعينيات، مع نشر كتابه المؤثر «الوعي مفسَّرًا» (1991م)؛ الذي، لم يفسّر الوعي، رغم أنه كتاب مثير للاهتمام. إنَّ تفضيلي من بين كتب دينيت حول هذا الموضوع يمتد أبعد من ذلك، ويصل إلى كتابه Elbow Room: The Variety of Free Will Worth Wanting (1984). (مُتسع: الأشكال المتنوعة للإرادة الحرة الجديرة أن يرغب بها).
رغم أنني أميل إلى التعاطف مع ستراوسون هنا، إلا أنني أعتقد أن دينيت أقرب للصواب. لمعرفة السبب، دعونا نفكر في تشبيهه الشهير، ما يسميه «مضخة الحدس» حول «الوعي الظاهراتي»، كما قدَّمه في كتاب «الوعي مفسَّرًا». يقترح دينيت أنَّ «الوعي الظاهراتي» هو «وهم المستخدِم» الذي يشبه الأيقونات التي اعتدنا رؤيتها على شاشات الحواسيب المكتبية، والمحمولة، وعلى الأجهزة اللوحية، والهواتف الذكية. عبّر عنها بما يلي:
«عندما أتفاعل مع الحاسوب فمعرفتي بما يجري فيه من أحداث محدودة. وبفضل مخططات العرض التي ابتكرها المبرمجون أتعامل مع استعارة سمعية بصرية متقنة، دراما تفاعلية مُمثَّلة على منصّة لوحة المفاتيح والماوس والشاشة. أنا، المستخدِم، أتعرّض لسلسلة من الأوهام الحميدة: إذ يبدو أنني قادر على تحريك المؤشر -وهو خادم قوي ومرئي- إلى المكان الذي أحتفظ فيه بملفي في الحاسوب، وبمجرد أن أرى أنّ المؤشر قد وصل إلى “هناك”، أجعل المؤشر يسترجع الملف بضغطة زر، أبسطه على صحيفة ممتدة على نافذة (الشاشة) بأمرٍ مني. أجعل كثيرًا من الأمور تحدث داخل الكمبيوتر عن طريق كتابة أوامر مختلفة، والضغط على أزرار مختلفة، ولست مضطرًا إلى معرفة التفاصيل؛ إذْ أتحكم في الحاسوب معتمدًا على فهمي للاستعارات السمعية البصرية المفصَّلة التي يوفرها وهم المستخدِم».
يُعدّ هذا في الواقع وصفًا (استعاريًّا) قويًّا جدًّا للعلاقة بين «الوعي الظاهراتي» والآلية العصبية الكامنة التي تجعله ممكنًا. لكن لماذا بحق السماء نسميه «وهمًا»؟ يذكّرنا المصطلح بخدع خفة اليد والدخان والمرايا فيها، وهو بالتأكيد لا ينطبق على الوعي. فأيقونات الحاسوب والمؤشرات وما إلى ذلك ليست أوهامًا، إنها تمثيلات فعالة سببيًا لعمليات لغة الآلة الكامنة فيها. فالتفكير في لغة الآلة سيكون شاقًا جدًا على أكثر مستخدمي الحاسوب، وسبيلًا بطيئًا جدًا في التعامل معه. لهذا السبب قدّم لنا المبرمجون الأيقونات والمؤشرات، لكن هذه الأشياء مرتبطة سببيًّا بشفرة الآلة الكامنة فيها، وهذا هو السبب في أننا نستطيع جعل الأشياء تحدث في الكمبيوتر. إذا كانت أوهامًا، فلن يحدث شيء؛ ستكون ظاهرة ثانوية خاملة سببيًّا.
أو فلنأخذ مثالًا أسهل. هل تسمِّي عجلة سيارتك وهمًا؟ لكنك من المؤكد عندما تديرها بهذه الطريقة أو تلك لست على دراية بالآليات المؤازِرة والإلكترونية المعقدة تعقيدًا بالغًا التي تترجم حركاتك اليسيرة إلى سيارتك بالدوران في الواقع إلى هذا الاتجاه أو ذاك. عندما تدير عجلة القيادة بطريقة دائرية، فإنَّ عجلات سيارتك لا تدور بالطريقة نفسها، بل تتحرك يمينًا أو يسارًا على مستوى أفقي، وهذا هو السبب في أنه يمكنك جعل السيارات ذات الأذرع تتحرك يمينًا أو يسارًا، بدلاً من دوران عجلات القيادة. إذن، إنَّ عجلة القيادة هي بمعنى ما تمثيل لما ستفعله السيارة إذا أثّرتَ عليها بهذه الطريقة أو تلك، وهي تعمل؛ لأنها مرتبطة سببيًّا بالآلية الكامنة فيها بطريقة تتيح لك تشغيل هذه الآلات بكفاءة دون أن تكون على دراية بها.
والأمر نفسه ينطبق على «الوعي الظاهراتي»؛ فإنَّ المشاعر والأفكار التي تخصّ «كيف يبدو؟» التي نمتلكها إنما هي تمثيلات عالية المستوى للآليات العصبية الأساسية المختلفة تمامًا في طبيعتها التي تجعل من الممكن لنا إدراك العالم والتفاعل معه والتنقل فيه. بدلاً من المبرمجين الأذكياء إلى حدٍ ما، علينا أن نشكر مليارات السنين من التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي غير المُدرك تمامًا على هذه التمثيلات الفعالة سببيًّا. إنَّ وصفها بالأوهام هو إخراج تفكيرنا من مساره إلى مسارات غير منتجة، مما يقودنا –إذا لم نكن حريصين– إلى ادعاءات ميتافيزيقية وعلمية، وهي إشكالية تمامًا مثلها مثل تلك التي قدَّمها تشالمرز ومن تبعه، والتي لم يبالغ ستراوسون في وصفها بأنها «سخيفة».
من الصحيح بلا شك- كما يؤكد الوهميون- أننا لا نستطيع الوصول إلى الآليات العصبية الخاصة بنا. بَيدَ أنه لا يلزمنا ذلك، تمامًا مثلما أنّ مستخدِم الكمبيوتر لا يلزمه معرفة لغة الآلة؛ بل هذا الحال أفضل مما لو عرف هذه اللغة. لا يعني هذا أبدًا أننا مخطئون بطريقة ما بشأن أفكارنا ومشاعرنا، وليس أكثر من أنني كمستخدِم للكمبيوتر قد أكون مخطئًا بشأن «المجلد» الذي يحتوي على «الملف» الذي كنت «أكتب» هذا المقال فيه.
إنّ ما يحفّز حديث الوهم هذا هو ما أعتقد أنه إغراء النزعة الاختزالية، وهي الفكرة القائلة: إنّ المستويات الدنيا من الوصف –في هذه الحالة المستوى العصبي البيولوجي– هي بطريقة ما أكثر صحة، أو هي المستويات الوحيدة الحقيقية. يمكن تسليط الضوء على المغالطة التي ترافق هذا النوع من التفكير بطريقتين: أولهما وأكثرهما وضوحًا: لماذا نتوقف عند المستوى البيولوجي العصبي؟ لماذا لا نقول: إنَّ الخلايا العصبية هي نفسها أوهام؛ لأنها تتكون من جزيئات؟ لكن لحظة، الجزيئات هي أيضًا أوهام؛ لأنها تتكون من كواركات. أو أوتار. أو حقول. أو أيًا كان آخر ما قالته عنها الفيزياء الأساسية.
إنّ طريقة التفكير هاته تجذب بعض الجشعين الاختزاليين، لكنها سخيفة لسبب بسيط هو أنها غير قابلة لأن يُعمل بها. وهي غير قابلة لأن يُعمل بها لأنه عندما يتعلق الأمر بالفهم البشري، فإنَّ مستويات الوصف المختلفة تكون مفيدة لأغراض مختلفة؛ فإذا كنا مهتمين بالكيمياء البيولوجية للدماغ، فإنَّ المستوى المناسب للوصف هو المستوى دون الخلوي الذي يأخذ المستويات الأدنى -على سبيل المثال: المستوى الكمي- كشروط أساسية. إذا أردنا صورة أوسع لكيفية عمل الدماغ، فنحتاج إلى الانتقال إلى المستوى التشريحي الأعلى الذي يستوعب جميع المستويات السابقة من المستوى دون الخلوي إلى المستوى الكمي كشروط أساسية. ولكن إذا أردنا التحدث إلى البشر الآخرين حول ما نشعر به وما نختبره، فإنَّ المستوى النفسي للوصف (ما يعادل أيقونات ومؤشرات دينيت) أبعد ما يكون عن كونه وهمًا؛ بل هو الأكثر قيمة. وهذا هو سبب عدّ الاقتراح القديم لبول وباتريشيا تشيرشلاند سخيفًا بحق –إذ يقول إننا يجب أن نستعيض عن حديث «علم النفس الشعبي» عن الألم مثلًا بالحديث «العلمي» عن إطلاق الألياف C، وهو جزء من الركيزة العصبية التي تجعل الشعور بالألم ممكنًا). لن يحدث ذلك، كما أننا لن نتعلم جميعًا – نحن، من يستخدم الحاسوب- فجأة لغة الآلة، ونتخلى عن المؤشرات والأيقونات.
عندما يقول الوهميون بأنَّ ما نختبره بوصفه كواليا «لا يماثل» آلياتنا الذهنية الداخلية الفعلية بأي حالٍ من الأحوال، فَهُم -بوجه ما- على حق، لكن يبدو أيضًا أنهم نسوا أن كل ما نُدركه عن العالم الخارجي هو تمثيل، وليس «الشيء في نفسه». فلنتأمل الجهاز البصري الذي يمثل -كما ذكرت أعلاه- أحد أفضل الحالات المفهومة لـ«وعي الوصول»، والذي يجعل «الوعي الظاهراتي» ممكنًا. ترى أعيننا في الواقع حزمة ضيقة جدًّا من الطيف الكهرومغناطيسي تحدده البيئة المحددة التي تطورنا فيها كرئيسيات اجتماعية، وكذلك نوع الإشعاع الذي يأتي من الشمس، ويمر عبر مرشحات الغلاف الجوي للأرض. بعبارة أخرى: هناك الكثير من الأشياء التي لا نراها على الإطلاق.
حقيقة أننا نرى العالم بالطريقة الصحيحة بدلاً من رأسًا على عقب هي أيضًا خدعة («وهم»؟) من الدماغ لأنَّ الألياف البصرية تجعل الأشياء الخارجية تولِّد مجموعة مقلوبة من الإشارات التي تصل إلى شبكتنا. إنَّ الدماغ هو الذي يعيد تأويل النبضات الكهربائية بحيث نرى العالم بشكل صحيح (انظر هنا). يمكن لبعض الأشخاص اختبار مدى غرابة ذلك باستخدام النظارات المقلوبة التي تعكس الصورة القادمة من الخارج قبل أن تُحفِّز الإشارات شبكية العين، وبذلك تُظهر للأشخاص كيف سيبدو العالم إذا لم يُصلح دماغهم الانقلاب. ومع بعض الأفراد، كان الدماغ يتكيّف سريعًا، ويعيد عكس نمط الإشارة، حيث يصبح العالم بمظهر «طبيعي» مرة أخرى، وذلك إلى أن يخلع المشاركون نظاراتهم، وعند هذه المرحلة يرى بعضهم العالم مقلوبًا حتى تُصلح أدمغتهم الأمرَ مجدَّدًا. لماذا -بحق السماء- تعمل الأشياء بهذه الطريقة؟ لأنَّ العين البشرية تطورت مستفيدةً من المبادئ الأساسية للبصريات، لكن الدماغ يحسّنها؛ لأنه تبيَّنَ أنه من الأسهل على البشر التنقل في العالم إذا رأوه في الوضع العادي بدلاً من أن يكون مقلوبًا.
أؤيد جون سيرل، وأعتقد أنَّ الوعي هو آلية بيولوجية متطورة ذات قيمة تكيفية، وأنَّ التعامل معه باعتباره وهمًا هو -بوجه واضح- إنكار للبيانات التي تحتاج إلى التفسير. كتبَ سيرل في كتابه: «إعادة اكتشاف الذهن» (1992م):
«ما أودُّ الإصرار عليه – باستمرار- هو أنه يمكن للمرء أن يقبل الحقائق الواضحة للفيزياء –على سبيل المثال:العالم يتكون من جسيمات مادية في حقول القوة –دون إنكار الحقائق الواضحة في خبراتنا الخاصة؛ على سبيل المثال: أننا جميعًا واعون، وأنَّ حالاتنا الواعية لها خصائص ظاهراتية محددة تمامًا غير قابلة للاختزال».
«غير قابلة للاختزال» هنا ليست مفهومًا صوفيًّا، ويمكن بيانه بعدة طرق. وإن كنت لست متأكدًا من الطريقة التي يميل إليها سيرل نفسه، لكنني أعتقد أنَّ الوعي ظاهرةُ منبثقة على نحوٍ ضعيف لا تختلف عن بلل الماء مثلًا رغم أنها أكثر تعقيدًا بكثير؛ إذ تمتلك جزيئات الماء الفردية عددًا من الخصائص الفيزيائية والكيميائية، لكنَّ البلل ليس واحدًا منها؛ إذ لا تكتسبُ هذه الخاصية إلا في ظل ظروف بيئية مُحدَّدة من درجة الحرارة والضغط المحيطَيْنِ، وعندما يوجد منها عدد كبير كافٍ. ومن المهم كذلك ذكر أنها خصائص الماء لا تعتمد فحسب على عدد الجزيئات وترتيبها، بل أيضًا على كيفية تكوين الجزيئات نفسها. فإذا كان لديها عدد مختلف من النيوترونات أو الإلكترونات داخل ذراتها، أو عدد مختلف من الذرات، فسيكون لديها خصائص مختلفة.
والشيء نفسه ينطبق على جميع الظواهر الذهنية، بما فيها «وعي الوصول» و«الوعي الظاهراتي». على الرغم من عدم وجود شيء شَبَحي حول هذه الظواهر -وعليه، نقول وداعًا لأي شكل من أشكال الثنائية- لا يبدو أنَّ أعدادًا وترتيبات معينة من الخلايا العصبية تكون كافية لتوليد هذه الظواهر؛ إذ تحتاج الخلايا العصبية المتواطئة أيضًا إلى أن تُصنع من المكون الصحيح (وينتجها)، فليس الأمر أنّ كيفية ترتيبها في الدماغ هو ما يحقق الغرض وحسب؛ بل إنها تتطلب أيضًا بعض الخصائص الفيزيائية والكيميائية المحددة التي تمتلكها الخلايا الكربونية التي قد تمتلكها أو لا تمتلكها البدائل السيليكونية -سؤال تجريبي مفتوح- والتي لا يمتلكها قطعًا الكرتون مثلًا .
يترتب على ذلك أنَّنا سنصل إلى تفسير ما للـ«وعي الظاهراتي» (إن كان ذلك سيحدث، فلا ضمان أننا سنكتشف طريقة ما لمعرفة أمر ما لمجرد أننا نريد معرفته)، وسنستمد الفهم من علم الأعصاب وعلم الأحياء التطوري، بمجرد أن يكون فهمنا للدماغ البشري قابلًا للمقارنة مع فهمنا لطرق العمل الداخلية للحواسيب. سنرى عندئذ وضوح الصلة بين الآليات الأساسية والتمثيلات الطَيعة للمستخدِم الفعالة سببيًا -وليست وهمًا!- التي تتيح لنا العمل بكفاءة مع الحواسيب، والبقاء والتكاثر في عالمنا باعتبارنا كائنات بيولوجية.
ماسيمو بيغولشتي أستاذ الفلسفة في جامعة مدينة نيويورك، وكاتب، ومذيع. مهتم بالبيولوجيا التطورية وفلسفة العلم. له عدّة كتب منها، How to Be a Stoic: Using Ancient Philosophy to Live a Modern Life (2017)
المصدر (وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى ومجلة إيون).