هل فقدنا القدرة على التمييز؟ | عبد السلام بنعبد العالي

تستغرق 2 دقائق للقراءة
هل فقدنا القدرة على التمييز؟ | عبد السلام بنعبد العالي

التمييز لغة هو فصل الشيء عن غيره، فصله خصوصًا عما يشابهه. كان ديكارت يحدد الفكرة المتميزة بأنها الفكرة التي تختلف عن كل ما عداها. فقدان التمييز إذاً هو أن تتشابه عليك الأمور. إنه الخلط Confusion الذي يجعل الأمر وشبيهه يتشابهان علينا ويمثلان أمامنا معا في الآن نفسه Simultanément.

يشير جون بودريار إلى الاضمحلال المهول للقدرة على التمييز في مجتمعاتنا المعاصرة التي تُنعت بأنها مجتمعات الفرجة، وإلى عجز الإنسان المعاصر عن «إقامة التمييزات وإصدار الأحكام سواء في الفن أو الأخلاق أو السياسة». كثيرون هم اليوم من يترددون أشد التردد، ويحتارون كبير الحيرة أمام الفيلم أو اللوحة أو القصيدة أو القطعة الموسيقية، فلا يعرفون «ما الذي ينبغي قوله»، ويحسّون أن المعايير التي ركنوا إليها، والنماذج التي تعودوا عليها، لم تعُد تفي بالمقصود كي تمكّنهم من البتّ في الأمر، والتمييز بين الصالح والطالح، بين الحَسَن والقبيح، الصحيح والفاسد. بل إن الأمر يطال حياتنا العملية نفسها. يتضح ذلك في عدم تمكننا اليوم من تكوين رؤية واضحة مبنية على تحليل مقنع لواقعنا السياسي، وتصرفاتنا الأخلاقية، ولعل أهم تجلّ لذلك هو عجزنا المطلق عن التمييز اليوم بين ما لليمين وما لليسار.

لا عجب أن ينعكس ذلك على مجال الإبداع والكتابة ذاتها. ويكفي أن نشير هنا إلى ما أخذنا نلحظه من خلط شديد بين المستويات، وعدم التمييز بين السطحي والعميق، بين المهم والتافه، بين الأصيل والمنحول، بين ما له معنى وما لا دلالة له على الإطلاق. فيكفي أن يكون النص غامضًا مرصَّعًا بالأسماء الكبرى، محيلًا إلى مصادر مشهورة، حتى يبدو كما لو أنه يستحق كل عناية وتبجيل. يكفيه إذاً أن يبدو «كما لو..» كي ينال الإعجاب، ويحصل على الجوائز، ويغدو حديث المنابر.

محاولةً لتحليل هذه الظاهرة يعتمد بودريار مفهوما يعتقد هو أنه يشكل أحد المفاتيح الأساسية لإدراك واقع الحياة المعاصرة هو مفهوم التشبّه Simulation. هذا اللفظ مشتق من الفعل الفرنسي Simuler، الذي يعني التظاهر، كما يعني القدوم المتآني للشبيهين Simultanément. وهو يحدده بأنه «التظاهر بامتلاك ما لا نملك». فهو إذاً ليس مجرد إخفاء، لأن الإخفاء، على العكس من ذلك، «تظاهر بعدم امتلاك ما نملك». فبينما يكتفي الإخفاء بحجب الواقع وستر الحقيقة، فإن التشبّه يجعل اللاواقع واقعًا، واللاحقيقة حقيقة. إنه يعمل في الواقع، ولا يكتفي بحجبه وإخفائه. بهذا المعنى فالتشبّه ليس حتى تظاهرًا، لأن التظاهر يقوم على مفهوم القناع، وبالتالي على معنى الإخفاء الذي لا ينال من الواقع ولا يهزّ أركانه، هذا في حين يعمل التشبّه على خلخلة مبدأ الواقع ذاته.

توضيحًا لهذه الآلية يستعير بودريار حكاية لبورخيس يصف فيها هذه المحاكاة الساخرة لـ«التشبه بالواقع»، حيث يقوم خرائطيو إمبراطورية بوضع خريطة مفصلة تغطي مجموع مجالها الترابي بدقة كبيرة. ومع أفول الإمبراطورية، تبدأ خريطتها في التفتت شيئًا فشيئًا… لا تعود الخريطة محاكاة لأرض، وإنما تتحول إلى إستراتيجية للتّوليد: «أصبحت الخريطة هي التي تسبق الأرض وترسمها وتولدها»، لقد غدت، بفعل تشبّهها بالواقع، واقعًا يفوق الواقع واقعيةً Sur-réel، واقعًا سرياليًا، وتمكَّن التشبُّه من أن يجعل الأرض والخريطة «يتشابهان علينا»، بحيث يختفي الاختلاف الذي يسمح بالتمييز بين الأشياء ويبرِّرُ وجود التجريد والخريطة والأرض والنموذج والمعيار فـ «تختلط» تلك كل هذه الأمور.

وهكذا فإن التشبه فعَّال، إنه يعمل عمله في الواقع ذاته، فيقضي على إمكانية التمييز فيه بين الحقيقة والزيف، بين الفساد والصواب، بين الصدق والكذب، بين الخير والشر، بين الواقع والوهم…

ذلك أن استراتيجية «التشبّه» تجعل الواقع والوهم يتشابهان فـ «يشتبهان علينا». إنها استراتيجية لخلق الشبُهات، تجعل الأمور تعمل وتبدو «كما لو..». إنها مسرحة للحياة و«فرجة» مؤسَّسَة. فهي ليست افتراء على الواقع من شأنه أن يفتضح وقت ظهور «الحقيقة»، وهي بذلك لا تماثل آلية التضليل الأيديولوجي، باعتبار أن هذه الآلية تسمح للحقائق بأن تنكشف بمجرد فضح التضليل، و«نقد» الأيديولوجية. وإنما هي تشبُّه بالواقع يجعله يكفّ عن أن يكون واقعًا ليفوق نفسه ويغدو واقعًا فائقًا، واقعًا سرياليًا Sur-réalité «من إنتاج نماذج مموهة داخل فضاء فائق لا مرجعية ولا محيطَ خارجيا له».

يسعى التشبّه إذاً إلى إقامة إبستمولوجية فوضوية جرثومية أساسها خلق الشّبُهات. من الطبيعي والحالة هذه، أن تعمل على سيادة التشابه، فتجعلنا لا نتوفر على معيار أو إطار مرجعي أو قاعدة منهجية أو ضوابط ويقينيات تصلح للتمييز بين الأشياء ورسم الحدود وتحديد المسارات وتثبيت الأسماء وضبط الآفاق وطرد الشّبهات. ومن الطبيعي أيضًا أن تفقدنا القدرة على التمييز، فتجعلنا نرى التشابه حتى بين المتخالفين، فلا نعود نفرق بين الطالح والصالح، بين الحسن والقبيح، بين الحق والباطل، بين الصدق والكذب، بين السطحي والعميق، بين اليمين واليسار، بين الواقع والوهم…

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.