ثورة الملابس | إيان غيليغان – ترجمة: آية علي

تستغرق 5 دقائق للقراءة
ثورة الملابس | إيان غيليغان – ترجمة: آية علي
                        ثورةُ الملابس


تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري


ماذا لو كان أوَّل ما دفع الإنسان نحو الزراعة لمواجهة مناخٍ متغيّر؛ هو الحاجة إلى المنسوجات لا الطعام؟

يعدّ «ثوب طرخان» أقدَم ثوب منسوج في العالم؛ إذ أكَّد اختبار الكربون المُشعّ أنّه يعود إلى أواخر الألفيَّة الرابعة قبل الميلاد.

الصورة بإذنٍ من متحف بيتري للآثار المصرية، في جامعة كاليفورنيا.

بدأ علماء الآثار وغيرهم من العلماء في كشف قصّة أكثر التقنيات الحميميّة التي تمتّعنا بها، ألا وهي: «الملابس». إنهم في طور معرفة متى بدأ أسلافنا في ارتداء الملابس للمرّة الأولى، ولماذا، وكيف كان تبنّيها أمرًا حاسمًا للنجاح التطوري لأسلافنا، أثناء مواجهتهم التغيّر المناخي واسع النطاق، خلال العصر البليستوسيني، في العصور الجليديّة.

الصورة بإذن من متحف بيتري للآثار المصرية، في جامعة كاليفورنيا.

يُظهر عمَلي الأخير أنَّ الملابس لم تكن مجردَ تكيفٍ فريدٍ لحيوانٍ ثدييٍّ أمردٍ إلى حدٍّ ما مع البيئات الطبيعية المتغيّرة. لقد أدّى تطوير الملابس إلى ابتكاراتٍ ذاتِ تداعياتٍ عديدة على البشرية، تتجاوز مجرد النجاة في المناخات الباردة. أدَّت الحاجة إلى عزلٍ مُتنقّلٍ عن البرد في العصر الحجريّ القديم إلى التحولات الفنية الرئيسة. وشملت هذه التقنيات مجموعات الأدوات الحجريّة للعمل على جلود الحيوانات، وتلا ذلك الأدوات المصنوعة من العظام، مثل: المِخرز والإبر المدبَّبة لصنع الملابس المخصَّصة. ثمّ حدث بعد ذلك في أبرد مرحلة من العصر الجليديّ الأخير أن ابتكر الإنسان العاقل الموجود عند خطوط العرض الوسطى ملابس متعددة الطبقات، مع طبقة داخلية من الملابس الداخلية. وتمكّن جنسنا -مع تقديم هذه الملابس حماية فعّالة من الرياح الباردة- من اختراق الدائرة القطبية الشمالية المُتجمّدة، متوغلًا في الشمال لدرجةٍ تفوق توغل إنسان النياندرتال القادر على التكيّف مع البرودة. لقد تجوّل الإنسان الحديث عبر جسرٍ برّي مكشوف من الزاوية الشمالية الشرقية لسيبيريا لدخول ألاسكا، قبل 15.000 عام -إن لم يكن قبل ذلك-، فمن المرجح أنّه أوّل نوعٍ من أشبَاه البشر تطأ قدمه الأمريكتين. اكتشف علماء الآثار -في موقع: Broken Mammoth، في ألاسكا- التقنية الهشَّة التي جعلت هذه الرِّحلة مُمكنة؛ وهي إبرة مثقوبة عمرها 13.000 عام.
كانت الدراسة العلمية للملابس تقع -حتى وقت قريب- ضمن اختصاص علماء وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا)، الذين اكتشفوا خصائصها الحرارية، التي باتت الآن معروفة جيدًا. تتيح لنا فسيولوجيا الملابس تحديد كميّة الملابس التي يتعيّن علينا ارتداؤها للبقاء على قيد الحياة في درجات حرارةٍ منخفضة جدًّا، وفي مستوياتٍ مُختلفة من برودة الرياح. بدأ أشبَاه البشر الأوائل في إفريقيا يسخِّرون النار منذ نحو مليون إلى مليونيّ سنة؛ ربّما كان ذلك للطهي أكثر من التدفئة. اُستُخدِمت النار بعد ذلك مع انتشار الإنسان العاقل في أوروبا، وشمال الصين، حيث تراجع الإنسان المُنتصب إلى الكهوف هربًا من برد الرياح. لكن وإن كان أشبَاه البشر الأوائل يتمتعون بشَعرٍ أكثر كثافة من الإنسان الحديث، فقد وجدوا أنفسهم بحاجةٍ إلى حملِ عازلٍ مُتنقل أثناء تواجدهم في العراء كلما كانت الأجواء شديدة البرودة لدرجةٍ تُهدّد الحياة. أمَّا الإنسان الحديث، فيمكن ألا تتجاوز أوقات تعرّضه للبرد القارص اللازمة للإصابة بالتثليج ساعة، ويمكن لانخفاض الحرارة الشديد المُهدِد للحياة أن يحدث بين عشيّة وضحاها، حتى في المدن. وإذانظرنا إلى الملابس من منظورٍ حراريّ، فسنجد أنَّ هناك جانبين مهمّين: الأول، عدد الطبقات، حيث تزيد كل طبقة إضافية من القيمة الإجمالية للعزل. أمّا الثاني، فهو كون الملابس مصنوعة صناعة تحيط بالجسد وتغطّيه كلّه، لا سيَّما الأطراف. تتيح الملابس المناسبة لمقاس الجسد حماية فائقة من برد الرياح، وهو أحد عوامل الخطر الرئيسة للتثليج وانخفاض حرارة الجسم.

وإذا كانت الملابس تُعَدّ من أبرز التقنيات البشرية المرئية، فإنها تكاد تكون غير مرئية في مجال علم الآثار؛ إذا قُورِنَتْ بالأدوات الحجرية التي تمكَّنت من النجاة، من العصر الحجري القديم السفلي، منذ أكثر من 3 ملايين سنة، فإنَّ الملابس تَتلَف بسرعة، ونادرًا ما تتمكّن من النجاة لأكثر من ألف عام فحسب. هناك بعض الاستثناءات البارزة، ومنها بِنطال عُمره 3000 عام، قد ارتداه راكبوّ خيول بَدَو في آسيا الوسطى، وسترة كتّان عمرها 5000 عام، من مِصر القديمة. ليس لدينا سوى عدد قليل من قطع القماش الثمينة من أوائل العصر الحجريّ الحديث، في بيرو وتركيا. لم تنجُ أيّ قطعة ملابس من العصر الجليديّ، سوى عدد قليل من ألياف الكتّان المتشابكة، التي ربما اُستُخدمت كخيوط أو أوتار، وقد وُجِدت في موقعٍ عُمره 34.000 عام، في جورجيا.

تُعَدُّ جميع الدلائل التي لدينا عن ملابس العصر الجليديّ غير مباشرة، بيدَ أنها تشير إلى خياطة الناس للملابس في العصر الجليديّ الأخير. لقد عُثِرَ على أقدَم إبرٍ مثقوبة في العالم، في جنوب روسيا، بتاريخٍ يمتد إلى ما قبل 40.000 عام، ويُقال: إنَّ هناك إبرة في كهف دينيسوفا يبلغ عُمرها 50.000 عام. وعُثِرَ بالقرب من موسكو، في موقعٍ يُدعى Sunghir، في المدافن البشرية التي يعود تاريخها إلى 30.000 عام، على آلاف حبّات الخرز المرتبة بعنايةٍ على الهياكل العظمية. يعتقد علماء الآثار الرُّوس أنَّ هذه الخرزات كانت مُخاطة في الملابس المُصمَّمة خصيصًا لتلائم شكل كل جسم، حتى السراويل ذات الأرجل والقمصان ذات الأكمام. كان هناك أيضًا بعض الهياكل العظمية التي بدا أنها تحمل طبقتين من الملابس، مما يشير إلى وجود طبقاتٍ متعددة؛ لذا تُوثّق مدافن سنغير وجود أقدَم ملابس داخلية في العالم. بدأت الأعمال الفنية في جميع أنحاء أوراسيا القديمة منذ ذلك الوقت بإظهار أشخاص يرتدون الملابس، حتى ما يُسمَّى بتماثيل “فينوس” المُصغّرة.

تمثال فينوس ولندورف، الذي يُقدَّر بأنّه يعود إلى حوالي 25.000 عام مضت، ويقع الآن في متحف التاريخ الطبيعي، فيينا. لاحظ الطاقية المنسوجة. الصورة بإذنٍ من موسوعة ويكيبيديا.

تلقَّت الجهود العلمية -لتسليط الضوء على الملابس في عصور ما قبل التاريخ- دفعة غير متوقعة من مسارٍ بحثيّ آخر، ألا وهو دراسة قمل الملابس، أو قمل الجسم. تتخذ هذه الحشرات الماصّة للدماء من الملابس خاصة بيوتًا خاصة بها، وقد تطوّرت من قمل الرأس عندما بدأ الناس في استخدام الملابس بانتظام. حلَّلت فرق البحث في ألمانيا والولايات المتحدة، جينوم قمل الرأس والملابس لتحديد النقطة التقديرية التي تنفصل فيها طفيليات الملابس عن طفيليات الرأس. تتمثّل إحدى ميزات أبحاث القمل في أنَّ النتائج مستقلة عن مصادر الأدلة الأخرى حول أصل الملابس، مثل: علم الآثار، وعلم المناخ القديم. توصّل فريق ألماني بقيادة مارك ستونكينغ، من معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية، إلى تاريخ يمكن تقديره بـ 70.000 عام مضت، ثمّ عٌدّل إلى 100.000 عام مضت، أيّ: في وقتٍ مُبكّر من العصر الجليديّ الأخير. أمَّا الفريق الأمريكي بقيادة ديفيد ريد، من جامعة فلوريدا، فقد أبلغ عن تاريخٍ مماثل يقدّر بـ 80.000 عام مضت، وربما بـ 170.000 عام خلال العصر الجليديّ السابق. تشير هذه النتائج القادمة من أبحاث القمل إلى أنّ عادتنا في ارتداء الملابس، قد نشأت في وقتٍ مُتأخّرٍ جدًّا من تطوّر أشبَاه البشر.

تُعَدُّ أبحاث القمل بمثابة هديّة ترحيب للأبحاث المنشغلة بأصول الملابس، لكنَّ مسارات بحث أخرى -حتى علم الآثار- تشير إلى أنَّ هذه القصة أكثر تعقيدًا. يبدو أنَّ أسلافنا شرعوا في ارتداء الملابس قبل العصر الجليديّ الأخير بوقتٍ طويل؛ عندما عانت أنواع مثل: إنسان النياندرتال، والإنسان المنتصب، من فصول شتاء البرد القارس، خلال الدورات الجليدية المبكرة التي يعود تاريخها إلى العصر الجليديّ المبكر، أيّ: منذ أكثر من مليون سنة. لا يمكن للتحليل الجيني لقمل الملابس الحديثة سوى أن يخبرنا بالملابس التي يجري ارتداؤها بشكلٍ روتيني في بعض التجمعات البشرية حتى يومنا هذا. من الممكن أنَّ أشبَاه البشر تبنّوا الملابس، (واكتسبوا قمل الملابس أثناء ذلك)، ثمّ تخلّصوا من هذه الملابس، خلال مراحل المناخ الدافئ، دون ترك أيّ أثر وراثيّ في قمل العصر الحديث.

يعتمد عمَلي على علم وظائف الأعضاء الحراريّ المعروف للملابس على التمييز، والذي يهدف إلى التمييز بين شكلين أساسيين من الملابس: البسيط، والمُعقد. تٌعدّ الملابس البسيطة فضفاضة وغير مناسبة وتتكون من طبقةٍ واحدة فقط. من أمثلة الملابس البسيطة: العباءات أو المعاطف الفضفاضة، التي تغطّي الرأس وتنسدل من فوق الأكتاف، وكذا المئازر. يمكن للملابس البسيطة إيجاد قدر معين من العزل في الطقس البارد، رغم أنّ هذه الملابس الفضفاضة لا توجِدُ سوى حماية محدودة من برد الرياح. ولعلّ الملابس البسيطة المصنوعة من الفراء الكثيف كانت كافية عندما بدأ أشبَاه البشر في احتلال شمال أوروبا خلال المراحل الجليدية الباردة، قبل نصف مليون سنة. أمَّا الملابس المُعقدة فإنها تُصمَّمُ تصميمًا يحيط بالجسم بصورةٍ وثيقة، ويمكن أن يتضمن أسطوانات مثبتة للإحاطة بالأطراف بالشكل الملائم، ثمّ يمكن أن تصل إلى 4 أو 5 طبقات. تُعَدُّ الملابس المعقدة بمثابة تطوّر أحدث، وتمثّل قفزة نوعية في تقنية الملابس، وهذا ما سمح للبشر بهزيمة الرياح الباردة، ومن ثمّ البقاء على قيد الحياة في أشدّ الأماكن برودة على سطح الأرض.

ما إن استبدلت الملابس طلاء الجسم الذي يهدف إلى الزينة والاستعراض؛ حتى انفصلت الحاجة إلى ارتداء الملابس عن المناخ

لا تختلف الملابس البسيطة عن الملابس المُعقدة في الخصائص الحرارية فحسب، بل في تقنيات العصر الحجريّ القديم المُستخدمة في تصنيعها أيضًا. تتطلب الملابس البسيطة أدواتٍ لكشط الجلد، تتطلب الملابس المُعقدة كاشطاتٍ أيضًا، لكن أضف إليها أدواتٍ لقطع الجلود تسمَّى «الشفرات»، التي كانت تُستخدم في تقطيع الجلود إلى أشكالٍ مُنتظمة، وعمل أسطوانات للأكمام والسراويل الضيقة. كان لا بد من حياكة الأشكال المنفصلة بعنايةٍ معًا، وهذا ما جعلنا نعثر على أدواتٍ مُخصَّصة لثقب الجلد تسمَّى بـ«المخرز»، وقد طُوِّرت لاحقًا في العصر الجليدي لتصبح الأداة الأيقونية: «الإبرة المثقوبة».

تين مين، امرأة من نساء نغارينجيري، ترتدي عباءة من جلد حيوان الأبسوم، وتحمل طفلًا على ظهرها، جنوب أستراليا، حوالي عام 1870. الصورة بإذنٍ من مكتبة أستراليا الوطنية، nla.obj-148825818.

يمكننا من خلال التعرّف إلى هذه الروابط بين الملابس البسيطة والمُعقدة وتقنيات العصر الحجريّ القديم، أن نجعل ملابس عصر ما قبل التاريخ خفيّة إلى حدٍ ما. لقد كشف هذا العمل طريقة تطور تقنيات الملابس مع تعرّض أسلافنا لمناخاتٍ أكثر برودة أثناء الدورات الجليدية في العصر الجليديّ. أصبحت مجموعة الأدوات التي تشمل كاشطات الجلد وشفرات تقطيع الجلود والأدوات المصنوعة من العظام أكثر شيوعًا في خطوط العرض الوسطى، خلال مراحل المناخ البارد.

يُعَدُّ من الدلائل الأخرى التي تشير إلى دور تغيّر المناخ، النحوُ الذي اختفت به هذه التقنيات أحيانًا خلال مراحل المناخ الدافئ. يمكن أن نرى هذا في جنوب أفريقيا مثلًا، حيث تظهر الشفرات الحجرية والمخرز العظميّ، خلال مرحلة المناخ البارد، منذ حوالي 75.000 عامًا. ونجد -بالعودة إلى ظروف بيئية أكثر اعتدالًا، أيّ: منذ حوالي 60.000 عام- اختفاء أدوات شفرات تقطيع الجلود والمخارز العظميّة، التي تثقب الجلود من السجلات الأثرية، لتظهر مرّة أخرى لاحقًا في مرحلةٍ أكثر برودة، منذ 22.000 عام، وهي مرحلة الذروة الجليدية الأخيرة (LGM). يبدو أنَّ الناس في العصر الحجريّ كانوا يرتدون الملابس في الطقس البارد فحسب، فيما يعيشون عُراة عندما تنتفي الحاجة إليها.

أصبحت الملابس ضرورة اجتماعية للناس في فترةٍ أحدث، قد تكون بعد عدة أجيال من الارتداء المنتظم للملابس، لا سيَّما في خطوط العرض الوسطى الباردة في نصف الكرة الشمالي، خلال مرحلة الذروة الجليدية الأخيرة وما بعدها. وما إن استبدلت الملابس طلاء الجسم الذي يهدف إلى الزينة والاستعراض؛ حتى انفصلت الحاجة إلى ارتداء الملابس عن المناخ. استمرّ الناس منذ تلك المرحلة في تغطية أجسادهم لدوافع اجتماعية ونفسية، منها شعور التواضع أو الخجل من كشف الجسد العاري؛ الشعور الذي تولَّد -على الأرجح- نتيجة التغطية الروتينية للجسد.

يضمّ نصف الكرة الجنوبي أيضًا المزيد من الدلائل الرائعة. فقد كان غياب الملابس عمومًا في مناخ أستراليا المعتدل جليًّا. لقد كان العُريّ هو القاعدة في الحياة اليومية للشعوب الأصليّة لأستراليا. فقد كان السُّكان الأصليون -قبل وصول الأوروبيين في الحقبة الاستعمارية-، يرتدون ملابس بسيطة فضفاضة أحيانًا من أجل الدفء، لا سيّما في المناطق الجنوبيّة الأكثر برودة. لا يكشف السجل الأثري للقارة عن كثير من التقنيات المتعلّقة بالملابس؛ ما يعني غيابًا نموذجيًّا لأغطية الجسد. بيدَ أنَّ الدلائل الأسترالية توضّح كيف يمكن للتغيّر المناخي تحفيز الابتكارات في تقنيات العصر الحجريّ القديم. فعندما حلَّت أبرد الظروف المُناخيّة على الجزء الجنوبي من أستراليا -منذ حوالي 30.000 عام- تمهيدًا لمرحلة الذروة الجليدية الأخيرة، تراجع سُكان تسمانيا إلى الكهوف لحماية أنفسهم من برد الرياح، وقد أنتجوا في تلك الكهوف كميّات كبيرة من الأدوات الكاشطة لجلود الحيوانات، وشرَعوا يصنعون مخارز عظميّة لخياطة ملابس أكثر فعاليّة.

لكن -وعلى غرار ما حدث قبل 60.000 عام، في جنوب إفريقيا- اختفت التقنيات التسمانية مع حلول الفترات بين الجليدية الأدفأ نسبيًّا قبل 12.000 عامًا. فإذا قورنت بنصف الكرة الشمالي، كانت درجات الحرارة في تسمانيا تميل للاعتدال دائمًا؛ ويرجع ذلك في الأصل إلى التأثير المُلطِّف لمساحات المحيطات الهائلة في نصف الكرة الجنوبي. ولكنَّ سُكان تسمانيا كان يمكنهم التعايش في غياب الملابس المُعقّدة أو مُتعدّدة الطبقات حتى في مرحلة الذروة الجليدية الأخيرة. كانت احتمالية أن تشغل ملابسهم الفضفاضة وظائف تزيينية أو اجتماعية أقلّ، وكانوا أقلّ عرضة للشعور بالخجل تجاه الأجساد العارية. ظلّت ملابس أهل تسمانيا براغماتية، وكانوا يستغنون عنها عندما يسمح الطقس بذلك.

يمكن أن يتحدى نمط الملابس لدى السُّكان الأصليين في أستراليا عددًا من النظريات الراسخة حول أصل الملابس فمثلًا: يشير اعتياد السُّكان الأصليين على العُريّ إلى أنَّ البشر لم يخترعوا الملابس لوجود شعور متأصِّل بالخجل أو الحياء. ثمّ إننا -الصيادين وجامعيّ الثمار- لم نكن بحاجةٍ إلى الملابس من أجل المظهر. وكذا الشعوب الأفريقية مثل: شعب البوشمن (أو السان)، الذين استخدموا عباءات مصنوعة من جلد الظباء للتدفئة، اعتمد العلّافون (الباحثون عن الطعام) foragers العُراة عادةً على التقنيات التقليدية، مثل: الرسم على الجسم والوشم والخدش scarification كبديل للملابس، وتزداد هذه الأشياء بهرجة في الاحتفالات والمناسبات الخاصة. وكل هذا دون ارتداء أيّة ملابس.

تعدّ الأدلة الأسترالية أيضًا -أو عدم وجودها- وثيقة الصِّلة أيضًا بأصول الزراعة. فليس مصادفةً أنَّ الملابس المنسوجة، والزراعة لم يظهرا في أنماط الحياة التقليدية للشعوب الأصليّة. يمكن للرابط بين الملابس المنسوجة، والزراعة المبكرة الإجابة عن كثيرٍ من التساؤلات التي ما تزال عالقة حول انتقال الإنسان إلى الزراعة. من مظاهر الغموض أنَّ الإنسان الحديث موجود على الأرض منذ حوالي 300.000 عام، وشهد تغيّرات هائلة في المناخ خلال عدد من الدورات الجليدية. ورغم ذلك لم يكن لدينا زراعة في أيّ مكانٍ حول العالم حتى 12.000 عامٍ مضت.

العلاقة بين ثورة المنسوجات والثورة الزراعية

عندما انتهى العصر الجليديّ قبل 12.000 عام، حدث تطوّرٌ جديد في الملابس. كانت درجات الحرارة العالمية قد ارتفعت ارتفاعًا كبيرًا، وأصبحت البيئات -مع ذوبان الصفائح الجليدية القاريّة، وارتفاع مستوى سطح البحر- أكثر بلَلًا ورطوبة. ولجأ الناس -للتكيّف مع هذه الظروف الرطبة- إلى صنع ملابسهم بأقمشةٍ منسوجة من ألياف طبيعية، مثل: الصوف والقطن. وهذه الألياف إذا قُورنت بالجلود والفِراء، وُجد أنَّ الأقمشة أفضل في التحكم في مسألة الرطوبة. تسمح بنية المنسوجات بنفاذ الرطوبة والهواء، و يمكن أن يساعد نفاذ الرياح في المناخات الدافئة على تبريد الجسم؛ إذ يمكن أن تتبخّر الرطوبة الناتجة عن معدلات التعرّق المُرتفعة بسهولةٍ أكبر من الجلد أو من القماش؛ وهذا يزيد تأثير التبريد. تتزامن الفترة الدافئة والرطبة -بعد العصر الجليديّ الأخير- التي تسمَّى بـ«العصر الهولوسيني»، مع تحوّل بالغ الأهمية، ألا وهو بداية العصر الحجريّ الحديث؛ عندما بدأ الناس يزرعون.

كان التحول الزراعي نُقطةً فارقة في علاقة البشرية بالعالَم الطبيعي؛ مما أدى إلى تغيير البيئة تغييرًا عميقًا مكّن من ظهور المدن والحضارات. والرأي المفاجئ الذي أودّ طرحه هنا هو وجود فرق بين ثورة المنسوجات والثورة الزراعية، فإنك تجدُ من المفهوم ضمنًا أنَّ هذا التغير التقني في الملابس قد أدى إلى ظهور حقبة الأنثروبوسين، وهي مرحلة من الاحتباس الحراري الناجم عن فعل الإنسان، وقد بدأت مع الزراعة وتسارعت مع حدوث الثورة الصناعيّة.

تشير الفرضية الجديدة إلى أنَّ إنتاج الألياف حفّز الانتقال إلى الزراعة بتحوّلٍ جذري عن التفكير التقليدي. وكما ذُكِر في مجلة الآثار البريطانية Antiquity، فإنَّ اقتراحي «يقلب كثيرًا من المعرفة الراسخة رأسًا على عقب». يجد بعض الناس الحُجة مقنعة، لكنَّ يصعب على أكثر الناس تقبّلها مقارنةً بحافز الغذاء. وحتى محاولة التفكير في فرضيتي الاستفزازية هذه قد تتطلب نقلة مفاهيمية أو فكرية. تعطي السردية السائدة في الأنثروبولوجيا الفضل للغذاء في الانتقال إلى الزراعة، ويشير مفهوم الصيد وجمع الثمار إشارة أساسية -إن لم تكن حصرية- إلى الاقتصاد الغذائي.

بيدَ أنّ علماء الأنثروبولوجيا -حتى روبرت كيلي، من جامعة وايومنغ-، يقولون: «إنَّ فئة الصيادين وجامعيّ الثمار، قد وصلت إلى نهاية عُمرها الإنتاجي لعدة أسباب. بيدَ أننا لا نزال مثقلين بمصطلحاتٍ عفاها الزمن، أكثر من التي تركّز على الغذاء، مثل: العلّافين والصيادين وجامعيّ الثمار؛ للدلالة على أنماط الحياة في حقبة ما قبل الزراعة. لا بدّ أن يكون التحول من البحث عن الطعام إلى الزراعة قد بدأ -بحكم التعريف- في الاقتصاد الغذائي، لكن لا يلزم أن يكون كذلك».

تدعو فرضية المنسوجات -بالإضافة إلى التحوّل في النموذج الفكري- إلى إعادة تقييم نقدي للأدلة التي لدينا حول الزراعة المبكرة. كانت الأدلة الأثرية على الألياف المُستخدمة في صناعة المنسوجات في السياقات الزراعية المبكرة حاضرة طوال الوقت، لكن أُغفلتْ، ويقدم هذا الدليل على الألياف؛ مما يدعو للتأمّل وإعادة التفكير. ثمّ إنّه يمكن للطلب على الملابس المنسوجة في عالَم ما بعد العصر الجليديّ الأكثر دفئًا ورطوبة، تفسير عدد من الألغاز الأزليّة حول التحوّل الزراعي. وأحد هذه الألغاز هو: لمَ قد يختار الصيادون وجامعوّ الثمار المخاطر الكبرى والعمل المُرتبط بإنتاج الغذاء، لا سيّما في الأيام الأولى؟

يظهر المفهوم الشّائع للزراعة باعتبارها إستراتيجيةً غذائيّةً مُتفّوقةً تصوّراتٍ عفاها الزّمن، وهي أنَّ البحثَ عن الطعام أسلوبُ حياة قاسٍ وغيرُ مستقرّ. بينما أدرك علماء الآثار الآن المخاطر الجسيمة للمجاعة وسوء التغذية في المُجتمعات الزراعيّة المبكرة، وأكّدوا السهولة النسبية لأنماط الحياة التقليدية في البحث عن الطعام، حتى في البيئات الهامشية مثل الصحاري الأسترالية. يدرك علماء الأنثروبولوجيا أنَّ البحث عن الطعام يتمتع بكثيرٍ من المزايا، منها: المرونة والأمان، اللذان ينبعان من استغلال قاعدة موارد واسعة. تُسلّط هذه الفوائد الضوء على لغزٍ آخر، وهو أنَّ كثيرًا من مجتمعات العصر الحجريّ الحديث واصلت الاعتماد على عملية البحث في تأمين معظم إمداداتها الغذائية، وهذا الذي ظلّ أحيانًا آلاف السنين حتى بعد تبنّيهم الممارسات الزراعية. وكذلك تشير الدلائل من شمال أوروبا إلى أنَّ مجتمعات العلاّفين -الباحثين عن الغذاء- كانت ميّالة إلى مقاومة انتشار الزراعة. والحقيقة أنَّ النظرة المنقحة لعملية البحث عن الطعام تُصعِّبُ معرفة سبب بدء الصيادين وجامعيّ الثمار في عصور ما قبل التاريخ بالزراعة؛ لمجرّد الحصول على الطعام، وربما لم يكن هذا هو الهدف مطلقًا.

نتجت البذور ذات الإنتاجية العالية من محاصيل الحبوب الرئيسة لدينا، مثل: القمح والأرز والذرة، عن آلاف السنين من الانتقاء الصناعي. كانت الأصول البريّة لهذه الأنواع اختيارات غذائية سيئة، ولو للاستهلاك البشري على الأقلّ. كان القمح محصولًا واحدًا فقط من بين مجموعة محاصيل جنوب غرب آسيا المبكرة. وكان الكتّان (الذي يُزرع للحصول على قماش الكتّان)، والشعير والجاودار، وكلاهما محاصيل علفيّة، والبقوليات، مثل: العدس والفول والحمص. بدأ رعيّ الأغنام والماعز في الفترة ذاتها تقريبًا، وكانوا يطعمون هذه الحيوانات الحبوب العشبية والبقوليات؛ لتوفير مصدر ألياف متجدد للمنسوجات. يمكن أن يُفسّر لنا إنتاج الألياف سبب تجشّم الناس عناء ترويض الحيوانات وإطعامها عوضًا عن قتلها من أجل لحومها. كانت الأغنام تنتج الصوف، والماعز تنتج أليافًا شبيهة بالصوف- ما دامت حيَّة؛ ممَّا يجعلها أكثر قيمةً كمصانع للألياف الحيَّة من قيمتها كأجساد هامدة. بعبارةٍ أخرى، كانت هذه الحيوانات بمثابة خِزاناتِ ملابس مُتحرّكة، لا ثلَّاجات مُتحرّكة. وكانت أكثر الخيارات بداهةً للحصول على اللحوم هي الماشية، ورغم ذلك كانت الأغنام والماعز أوّل حيوانات تُرعى.

بدأت الزراعة في الصين بطريقةٍ مشابهة؛ إذ بدأت بزراعة المحاصيل المستخدمة في الأعلاف، مثل: الدُخن. كان تدجين الأرز عملية بطيئة إلى حدٍّ ما، واستغرق الأمر بضعة آلاف من السنين قبل أن يصبح غذاءً بشريًّا أساسيًّا. والأمر كذلك في الأمريكيتين؛ إذ لم تظهر الذرة إلا في وقتٍ متأخر، ولم يكن لها وجود بارز في التحولات الزراعية الأولى التي بدأت قبل 10.000 عام، في البيرو وأمريكا الوسطى. ضمّت البيرو تحوّلين مستقلين، شمل أحدهما النباتات، وشمل الآخر الحيوانات. اعتادت المجتمعات الزراعية الساحلية زراعة القطن، وكانت تنسجه؛ لصناعة شِباك الصيد والملابس، كما تمتد الأقمشة القطنية المصبوغة إلى نحو 6000 عام. كذلك رعى قاطنوّ مرتفعات الأنديز أسلاف اللاما والألبكة البريّة؛ من أجل أصوافها.

لقد قلبت المنسوجات الموازين لصالح الزراعة قلبًا صريحًا وغير صريح

من الأمثلة الأخرى على ذلك حالة مرتفعات بابوا غينيا الجديدة (PNG). كان مناخ الذروة الجليدية الأخيرة (LGM) في المنطقة قارصًا، مشجعًا على ارتداء الملابس عند خطّ الاستواء بسبب المرتفعات. بدأت الزراعة بنمط البستنة قبل 10.000 عام، في مرتفعات بابوا نيو غينيا، حيث كان المحصول الرئيس هو الموز. تمتلئ فاكهة الموز البريّة بالبذور الصلبة، وهي أقلّ استساغة من الأصناف المعاصرة الخالية من البذور والمليئة باللبّ الحلو. بيدَ أنَّ نباتات الموز البريّة قد أنتجت منذ البداية موادًا نسيجية، واستُخدِمت ألياف الموز هذه في جميع أرجاء ميلانيزيا الاستوائية الرطبة لنسج الملابس التقليدية. ظهر أيضًا مثال آخر في أمريكا الشمالية، حيث جرى إطعام الذرة المزروعة للديوك البريّة المستأنسة. من المرجح أن يكون استئناس الديوك الرومية قد حدث للاستفادة من ريشها الذي كان يستخدم في نسج الملابس والبطائن، لا لإسهامها بصورةٍ كبرى في النظام الغذائي البشري.

لقد قلبت المنسوجات الموازين لصالح الزراعة قلبًا صريحًا وغير صريح. أصبح إنتاج الغذاء سِمة سائدة، حيث جرى تدجين المزيد من الأنواع النباتية والحيوانية لإطعام البشر. ويرى عالم الآثار بريان هايدن أنَّ الأغذية الزراعية كانت تُعدُّ غالبًا -حتى في تلك الحالة- منتجات فائضة يجري تناولها كولائم في المناسبات الخاصة، لا كأغذية أساسية يوميّة. إنَّ اعتبار الغذاء وحده السبب الرئيس في التوجّه للزراعة غير كافٍ وإشكالي. قد يبدو السيناريو البديل الذي يعتمد المنسوجات غيرَ معقول، ويتطلّب ثورة في الطريقة التي ننظر بها إلى الثورة الزراعية. بيدَ أنَّ هذا السيناريو يردد صدى الدور الشبيه الذي لعبته المنسوجات في الثورة الصناعية؛ فتبينُ النقطة المحورية في التاريخ، حيث كان إنتاج المنسوجات القطنية على نمط المصانع دافعًا للتحول الصناعي. من المفارقات هنا أنّ إذا كانت الزراعة والتحوّل الصناعي كلاهما يتقاطعان مع الملابس؛ فهذا يعني أنّ تكيّف الإنسان مع الطقس البارد يمكن أن يجعل العالَم -كلّه- أكثر دفئًا في نهاية المطاف.

برزت المنسوجات، في الآونة الأخيرة، في صناعة المادة المُميِّزة للقرن العشرين، وهي: «البلاستيك». بدأ ذلك مع نهاية القرن التاسع عشر، مع محاولة إنتاج الحرير الصناعي. كانت أوّل ألياف بلاستيكية في السوق عبارة عن فسكوز شبه صناعي، أو رايون، وهو بوليمر سليلوز مشتق من لبّ الخشب. واختُرعت عام 1980، مادة «السلوفان» على يد مهندس منسوجات، باعتبارها قطعة قماش مقاومة للمياه، لكنها وجدت مكانة تجارية في النهاية في مجال التعبئة والتغليف. وبالمثل، كان الغرض من مادة الفينيل بدايةً أن تُستخدم في صناعة معاطف المطر، لكنَّ مشتق الـ PVC الصلب هذا وجد كثيرًا من التطبيقات، كـ: الأنابيب ومواد البناء إلى الأثاث والمنتجات الاستهلاكية ولعب الأطفال وأقراص الفونوغراف. أمَّا أنواع الـ PCV اللينة والمرنة، فإنها تُستخدم على نطاقٍ واسع في صناعة العوازل الكهربائية والجلد المُقلّد. كانت أوّل ألياف صناعية حقًّا هي: «النايلون»، وهو بوليمر مشتق من البترول، اخترعه كيميائيّ في شركة DuPont، تبعه ألياف من البوليستر أطلق عليها مادة «التيرايلين». يعتمد بلاستيك PET -الذي يشتهر حاليًا لدخوله في صناعة زجاجات المشروبات التي تستخدم لمرّةٍ واحدة- على ألياف البوليستر، ويمكن إعادة تدوير زجاجات PET كأليافٍ صناعيّة. يلوح لنا بعد ذلك في قائمة التقنيات التي يمكن ارتداؤها، الملابسُ الذكيةُ التي تدمج الإلكترونيات والبطاريات المرنة في البُنية المنسوجة للملابس.

لقد قطعت الملابس شوطًا طويلًا منذ العصر الحجريّ القديم، منذ أن غطَّى أسلافنا العُراة أنفسهم بجلود الحيوانات. يمكننا الآن جعل ملابس عصور ما قبل التاريخ -التي كانت مخفيّة على مدار التاريخ نتيجة عدم ظهورها في الآثار- مرئية. حفّز تطوير الملابس الابتكارات التكنولوجية التي وسَّعت العالَم البشري، وحوّلته في نواحٍ كثيرة. أصبحت الملابس جانبًا لا غنى عنه من جوانب الإنسان، بدءًا من الملابس المُعقدة التي صُنعت في أبرد مراحل العصر الجليديّ الأخير. وحلَّت الملابس مع إخفاء الجلد العاري كاملًا، على نحوٍ مستمر محلّ الجسد العاري في الزينة الشخصية، لتصبح الملابس سطحًا بديلًا للعرض الاجتماعي؛ وهو ما أدى إلى خلقِ شعورٍ غير طبيعي بالخجل من التعرّي. ثمّ أدّى الاحتباس الحراري الطبيعي في العصر الجليديّ إلى التحوّل إلى المنسوجات، التي كانت حافزًا للزراعة والثورة الصناعية، وهذان التحوّلان هُما اللذان دفعا البشرية بعيدًا عن الطبيعة، وسهَّلاَ خَلق العالَم الحديث.


إيان غيليغان – عالِم متخصِّص في عصور ما قبل التاريخ، وهو مؤلِّف كتاب: المناخ والملابس والزراعة في عصور ما قبل التاريخ: ربط الأدلة والأسباب والتأثيرات (2019).

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.