في مقال نشره رودولف كارناب في مجلة Erkenntnis (العدد II، 1931) بعنوان «مجاوزة الميتافيزيقا بواسطة التحليل المنطقي للغة» ( Überwindung der Metaphysikdurchlogische Analyse der Sprache)[1]، ونذره إلى الفحص عن «صلاحية الميتافيزيقا ومشروعيتها»، وذلك على خطى «خصوم الميتافيزيقا» القدماء، من ريبيين وتجريبيين واسمانيين، ولكن بالأدوات التي صار يوفّرها «تطوّر المنطق الحديث» نحن نعثر على قراءة «سالبة» لنص من النصوص الخطيرة لهيدغر (محاضرة 1929 ما هي الميتافيزيقا؟) في ضوء «المنعرج اللغوي» كما تبدّى لأقطاب الوضعية المنطقية، نعني في شكل «مهمّة إيضاح المضمون المعرفي ( cognitif) للمنطوقات العلمية، ومن ثمّ لدلالة الألفاظ (الماثلة في هذه المنطوقات أو ’’المفاهيم’’)، بواسطة التحليل المنطقي»[2].
إنّ اللافت للنظر هنا هو أنّ كارناب يفترض أنّ صرف الفلسفة إلى مهمّة توضيح المنطوقات العلمية تؤدي إلى نتيجتين إحداهما موجبة والأخرى سالبة: الموجبة هي التي يُظفر بها في ميدان «العلوم الطبيعية»، أمّا السالبة فهي تلك التي تنجرّ عن التحليل المنطقي لما يُقال في ميدان الميتافيزيقا: «إنّ المنطوقات المزعومة في هذا الميدان هي خالية من المعنى تماما»[3]. بيد أنّ طرافة القراءة «السالبة» التي يقترحها كارناب لا تكمن في إثبات خلوّ المنطوقات الهيدغرية من المعنى، بل بخاصة في كونه ينتهي إلى تقديم تصوّر «موجب» لما ينبغي أن يكون عليه الخطاب الميتافيزيقي، حين يتخلى عن ادّعاء الصلاحية «المنطقية» التي لا يملكها، وينقلب إلى «تعبير عن شعور الحياة» على نحو «فنّي»؛ وهو اختيار يفترض كارناب أنّ نيتشه هو أفضل من حققه في كتاب حدّث زرادشت قال[4]. إنّ افتراض كارناب بأنّ «الفن هو وسيلة التعبير الملائمة» لما تريد الميتافيزيقا قوله، يصبح أكثر إثارة عندما نضع في الاعتبار أنّ الحوار الفلسفي هو الفنّ بوصفه ميدانًا للتفكير الجوهري وهو ما انصرف إليه هيدغر الثاني منذ درس شتاء 1934/1935 حول قصائد هلدرلين.
لإيضاح ما تقدّم، علينا أن نبيّن: 1- ما معنى «منطوقات خالية من المعنى»؟؛ 2- بأيّ وجه يمكن الحكم على منطوقات الميتافيزيقا (مع اتخاذ هيدغر نموذجًا) بأنّها بلا معنى؟؛ 3- إلى أيّ حدّ يمكننا التفكير في لقاء موجب بين كارناب وهيدغر الثاني حول اعتبار «الفن» و ليس «النظرية» هو شكل التعبير الملائم للميتافيزيقا؟
يقول كارناب: «على وجه الحصر، هي خالية من المعنى (dépourvue de sens)، سلسلةُ الألفاظ التي لا تكوّن منطوقًا (énoncé) داخل لغة معيّنة معطاة. وقد يحدث لهكذا سلسلة من الألفاظ أن تظهر لأوّل وهلة في مظهر منطوق؛ في هذه الحالة، نحن نسميها شبه-منطوق (simili-énoncé). ونحن نزعم إذن الأطروحة القاضية بأنّ المنطوقات المزعومة للميتافيزيقا إنّما تنكشف في ضوء التحليل المنطقي [بوصفها] أشباه-منطوقات»[5].
إنّ كارناب يفترض جدلًا أنّ كلّ لفظ لم يدخل إلى اللغة إلاّ للتعبير عن شيء معيّن، ومن ثم أنّ رأس الإشكال هو في وجود «ألفاظ بلا دلالة»؛ وهو يعتقد أنّ «مفهومات» الميتافيزيقا هي من هذا الجنس: ألفاظ «فقدت دلالتها القديمة دون أن تستعيض عنها بدلالة جديدة»، وإنّها لذلك ينبغي تسميتها «شبه-مفهومات» ( simili-concepts)[6]. إنّ «المعنى» هو أوّلًا دلالة اللفظ في لغة معطاة حافظت فيها الألفاظ على دلالتها الأصلية، أي على كونها تشير إلى شيء معيّن. ولكن ما الذي يحدّد دلالة اللفظ هذه؟
يفترض كارناب أنّ ما يحدّد دلالة اللفظ هو «علم قواعد اللفظ» (la syntaxe du mot) أي «جهات تواتره في الشكل القضوي الأبسط حيث يمكن له أن يدخل»، وهو ما يسميه كارناب «المنطوق العنصري» ( l’énoncé élémentaire)، مثل إنّ «ش هو حجر»[7]. إنّ طريقة التعامل مع هذا المنطوق العنصري هو ما يفرّق بين المنطق، ونظرية المعرفة، والفلسفة (مثلًا الفينومينولوجيا). وحسب كارناب توجد أربع طرق للسؤال عن المنطوق:
«1- من أيّ منطوق يمكن أن يُستنبَط [المنطوق] س ، وأيّة منطوقات هي قابلة للاستنباط من س؟ ؛ 2- ضمن أيّة شروط يجب على س أن يكون حقيقيًا، وضمن أيّة شروط يكون خاطئا؟؛ 3- كيف يجب أن يكون متحقَّقا منه ( vérifié)؟؛ 4- أيّ معنى لـ س ؟ . إنّ 1- هي الصياغة السليمة؛ 2- تقابل طريقة الكلام في المنطق؛ 3- طريقة الكلام في نظرية المعرفة؛ 4- طريقة الفلسفة ( الفينومينولوجيا). وحسب فيتغنشتاين، إنّ ما يريد الفلاسفة قوله بواسطة 4 يُتصوَّر بواسطة 2 [..]»[8].
إنّ الخطير هنا هو أنّ الألفاظ لا «معنى» لها أكثر ممّا يسمح به المنطوق العنصري الذي تتقوّم به. وحسب كارناب إنّ الميدان الوحيد الذي تتحقّق فيه مثل هذه المعادلة هو العلوم التجريبية[9]. ههنا يمكن للفلسفة أن تعثر على نموذج حاسم لبناء «دلالة لفظ» ما بناء سليمًا، أي خاليًا من أيّ ألفاظ بلا معنى. أمّا القاعدة العامة فهي:
«أنّ كلّ لفظ في اللغة هو مردود إلى ألفاظ أخرى وفي النهاية إلى الألفاظ التي تمثل في المنطوقات المسماة [منطوقات] ’’الملاحظة’’ أو ’’ منطوقات بروتوكولية’’( énoncés protocolaires) . [..] وبعامة يُقال في نظرية المعرفة إنّ المنطوقات الأولى تتعلّق بـ ’’المعطى’’؛ ولكن ليس ثمّ أيّ اتفاق حول ما نعتبره بوصفه ’’المعطى’’»[10].
إنّ كارناب لا يفعل هنا سوى رفع المنطوقات العلمية إلى رتبة نموذج لبناء المنطوقات الفلسفية، بحيث يحكم على أيّ لفظ فلسفي لا يمكن ردّه إلى «منطوقات ملاحظة» أو «منطوقات بروتوكولية»، أي لا يمكن ردّه إلى «معطى» محدّد، بأنّه «خلو من المعنى». إنّ نكتة الإشكال متوقّفة هنا على دلالة مصطلح «المعطى»، لاسيما وأنّ كارناب لا يخفي أنّه ليس ثمة اتفاق على معنى «المعطى»:
«تارة يذهب المرء إلى أنّ الأمر يتعلق، ضمن المنطوقات حول المعطى، بالكيفيات الأكثر بساطة، الحسية والعاطفية (مثلا: ’’حار’’، ’’أزرق’’، ’’فرح’’،الخ)؛ وطورًا تذهب نزعة أخرى إلى أنّ الأمر يتعلق في المنطوقات الأولى بالتجارب المعيشة [..]؛ وطورًا آخر يذهب المرء إلى حدّ القبول بأنّ المنطوقات الأولى تتحدّث بعدُ عن الأشياء. ولكن مهما كان تباين هذه التصورات، فإنّه يبقى [من الصحيح] أنّ سلسلة من الألفاظ ليس لها من معنى إلاّ متى أقررنا علاقات قابلية استنباط انطلاقًا من منطوقات بروتوكولية، مهما كانت طبيعة هذه الأخيرة؛ كذلك فإنّ أيّ لفظ ليس له من دلالة إلاّ متى كانت المنطوقات التي يمثل فيها قابلة للردّ إلى منطوقات بروتوكولية»[11].
إنّ شبح «المعطى» هنا حاسم: فما لا يُردّ إلى «منطوق ملاحظة»، أي إلى «كيفية حسية/عاطفية» أو «تجربة معيشة» أو «أشياء» عينية، هو منطوق خال من المعنى، أي هو «شبه-منطوق»، وإذا استعمله الفيلسوف هو «شبه-مفهوم». نحن نتحرّك في ميدان حيث لا يمكن أن يُقال إلاّ ما هو قابل للردّ إلى / أو قابل للاستنباط من منطوقات أولى لا دلالة لها إلاّ ما تحدّد في «المقاييس الامبريقية» التي وُضعت منذ المنطلق[12]. لذلك فكل لفظ لا معنى له إلاّ متى علمنا مسبقًا من أيّ منطوق أول هو قابل للاستنباط وما هي شروط حقيقته وبأيّ وجه يمكن «التحقق» ( vérification) منه.
يقول كارناب : «لنلخّص غرضنا بعجالة. لنفرض أنّ أ هو لفظ ما و أنّ هـ (أ) هو اللفظ العنصري الذي يمثل فيه. إنّ الشرط الضروري والكافي حتى يكون لـ أ دلالة ما يمكن أن يُصاغ في كل واحدة من الصيغ التالية، التي تقول في قرارها نفس الشيء:
1- أنّ المقاييس الامبريقية [للفظ] أ هي معلومة.
2- أنّه قد تقرّر أنّ من أيّة منطوقات بروتوكولية يكون [ المنطوق العنصري الذي يمثل فيه اللفظ أ] هـ (أ) قابلًا للاستنباط.
3- أنّشروط حقيقة هـ (أ) مقررة.
4- أنّ طريقة التحقق من هـ (أ) معلومة» [13].
بهكذا عدة هاجم كارناب «الألفاظ الميتافيزيقية» مثل «المبدأ» (في عبارة «مبدأ الوجود» أو «المبدأ الأسمى للعالم») أو «الإله»، بمعية ألفاظ أخرى مثل «الفكرة»، و«المطلق»، و«اللامشروط»، و«اللامتناهي»، و«وجود الموجود» و«اللاموجود» و «الشيء في ذاته»، و «الروح المطلق»، و«الروح الموضوعي»، و«الماهية»، و«الوجود في ذاته ولذاته»، و«الفيض»، و«التجلي»، و«المفارقة»، و«الأنا»، و«اللاأنا»[14]. أمّا القاعدة العامة فهي: أنّ الفلاسفة قد نزعوا «الدلالة الأصلية» عن اللفظ، أي دلالته «الامبريقية»، وتركوه «بلا دلالة». مثلًا: إنّ الفلاسفة قد نزعوا الدلالة الأصلية للفظة «مبدأ» التي تدلّ، كما في اليوناني ( arch) واللاتيني (principium) على معنى «البداية»، وتركوها بلا معنى؛ كذلك هم نزعوا عن لفظة «إله» دلالتها الأصلية، أي «الميثولوجية» الدالة على «موجودات جسمية» أو «روحانية» تفعل في السماء أو في الجحيم، و تركوها بلا دلالة، أي «لا تحيل على شروط حقيقة منطوقاتها العنصرية»[15].
بيد أنّ طرافة كارناب لا تكمن في هذا الدحض «الامبريقي» لدلالة الأقوال الميتافيزيقية بوصفها مجرّد «أشباه-منطوقات»، بل بخاصة في كونه يتحدّث عن «أشباه-منطوقات» من نوع آخر أكثر خطورة: هي تلك التي «تكون الألفاظ التي تتألّف منها ذات دلالة، ولكن مرتبة على نحو لا ينتج معه أيّ معنى»[16]. إنّ المشكل الأكبر هو أن تكون المنطوقات سليمة من الناحية «النحوية»، لكنّها بلا معنى من الناحية «المنطقية».
يقول كارناب: «من الممكن أن نكوّن في اللغة العادية سلاسل من الألفاظ الخالية من المعنى دون أن نخرق قواعد النحو، ذلك يشير، من الناحية المنطقية، إلى أنّ علم القواعد النحوي لا يكفي. ولو كان علم القواعد النحوي مناسبًا على وجه الدقة لعلم القواعد المنطقي، لما كان يمكن أن يتولّد أيّ شبه-منطوق»[17].
إنّ ذلك هو حال أغلب منطوقات الميتافيزيقا، وإنّ الرهان هو كيف يمكن الكفّ عن إنتاج مثل هذه المنطوقات؟ حسب كارناب لا يمكن أن نعثر على الحل ضمن اللغة العادية التي يستعملها الفلاسفة، بل في بناء «لغة سليمة منطقيًا»، وليس فقط سلمية نحويًا».
يقول: «إذا كانت أطروحتنا القاضية بأنّ منطوقات الميتافيزيقا هي أشباه-منطوقات، قائمة على أسس، فإنّ الميتافيزيقا لا يمكن أن يُعبَّر عنها حتى ضمن لغة مبنية على نحو سليم منطقيًا. من هنا تأتي الجسامة الفلسفية المعتبَرة للمهمة المتمثلة في بناء علم قواعد منطقي، وهي مهمة يشتغل عليها المناطقة حاليًا»[18].
في هذا السياق تحديدًا أتى كارناب إلى قراءة بعض المقاطع من محاضرة هيدغر ما هي الميتافيزيقا ؟(1929)، تلك التي تتعلّق بمسألة «العدم».
قال: «نحن نريد الآن أن نشير إلى بعض الأمثلة عن أشباه-المنطوقات الميتافيزيقية التي يمكن اعتمادًا عليها أن نتحقّق بوضوح خاص من أنّ علم القواعد المنطقي قد وقع انتهاكه، برغم أنّ علم القواعد النحوي التقليدي قد احتُرِمَ. ونحن نختار بعض المنطوقات من عرض المذهب الميتافيزيقي الذي يمارس اليوم في ألمانيا التأثير الأكبر» [19].
إنّ دعوى كارناب هي أنّ منطوقات هيدغر من قبيل «العدم أكثر أصلية من “ليس” والسلب” أو “العدم نفسه ينعدم”، هي سلسلة من الألفاظ لئن كانت تحترم قواعد النحو فهي لا تحترم قواعد المنطق، ومن ثمة ينبغي أن نحكم عليها بأنّها خالية من المعنى. إنّ منطوقات هيدغر هي تدرّج غير سليم من منطوقات اللغة العادية،- مثل ” ماذا يوجد في الخارج؟” – “في الخارج يوجد المطر” – التي هي سليمة نحويًا ومنطقيًا، إلى منطوقات ميتافيزيقية،- مثل “ماذا يوجد في الخارج؟” – “في الخارج يوجد العدم” –سليمة نحويًا، لكنها غير سليمة منطقيًا. ولذلك فإنّ منطوقات الميتافيزيقا لا وجاهة لها إلاّ “التناسب الخادع” مع منطوقات اللغة العادية التي تقبل الشكل النحوي نفسه سواء لسلاسل الألفاظ ذات المعنى أو التي هي خالية من المعنى»[20].
إنّ ما يثير كارناب هو أنّ هيدغر على بيّنة من أنّ طريقة استعماله للألفاظ منافية لقواعد المنطق ولطريقة التفكير في العلوم، ولذلك فإنّ نصوصه لا تقع في بعض الأخطاء المنطقية سهوًا بل نتيجة تصميم على نمط معيّن من الاستعمال للغة يحتوي في بنيته على «أخطاء منطقية» قائمة في صلب «الصيغ اللغوية» المفكَّر فيها نفسها[21].
بيد أنّ ما هو لافت للنظر حقًا هو أنّ كارناب يفترض أنّ أغلب «الأخطاء المنطقية» التي تنطوي عليها أشباه-المنطوقات إنما هي «ملازمة لاستعمال فعل “كان” ( être) في لغتنا (ولاستعمال الألفاظ المقابلة في لغات أخرى)» : فهذا الاستعمال يعاني من 1- التباس فعل «كان» الذي يشير من جهة إلى الرابطة (copule) مع محمول (أنا [ هو/أكون] جائع) ومن جهة إلى مؤشّر على الكينونة (أنا أكون)؛ 2- أنّ عبارة «أنا أكون» توهم بأنّ «الكينونة» هي «محمول» حيث ليس ثمة شيء من هذا القبيل؛ 3- «الخلط بين المجالات» في استعمال المفاهيم، حيث يمكن أن نحمل المفهومات التي تنطبق على «موضوعات» ونطبقها على «تعيّنات» موضوعات أخرى[22]. إنّ محرّك الميتافيزيقا بعامة، وأفضل الأمثلة على ذلك حسب كارناب هما هيغل وهيدغر، هو ادّعاء إمكانية «اكتشاف وتقديم معرفة ليس للعلم الامبريقي عليها أيّة سلطة»[23].
إنّ اللافت للنظر هو أنّ كارناب لا يقف ضمن مقالة 1931 عند «التحليل المنطقي للغة» الميتافيزيقية، سواء في استعماله السالب، أي «اجتثاث الألفاظ الخالية من الدلالة وأشباه-المنطوقات الخالية من المعنى»، أو في استعماله الموجب، أي «إيضاح المفاهيم المنطوقات ذات المعنى، من أجل تأسيس منطقي لعلم الواقع والرياضيات»، بل هو قد انتهى في آخر فقرة منه (الفقرة 7) إلى اقتراح تخريج موجب للمشكل المطروح عنونه «الميتافيزيقا بوصفها تعبيرا عن شعور الحياة» ( la métaphysique comme expression du sentiment de la vie)[24]، وذلك درءًا لما يثيره حكمه على الميتافيزيقا من «تحيّر، بما في ذلك لدى الذين سيرتضون فكريًا بنتائجـ(ه)»[25].
ربّ تخريج لا يعبّر فقط عن حسّ بالمسؤولية الفلسفية لدى كارناب، وإنما بخاصة عن اعتراف صريح بأنّ اعتراضه على الميتافيزيقا ليس موقفًا كلبيًا، بل هو تشخيص «غنوصيولوجي» لضرب من «الوهم» النظري للمنطوقات الميتافيزيقية.
«[..] إنّ الميتافيزيقا إنّما تملك مضمونًا ما، لكنّه ليس نظريًا أبدًا. إنّنا لا ننتظر من (أشباه)-منطوقات الميتافيزيقا أن تكون عرضًا لأحوال الأشياء (Darstellung von Sachverhalten) الموجودة (إذ سيتعلق الأمر عندئذ بمنطوقات صحيحة) أو غير الموجودة ( حيث ستكون هذه المنطوقات على الأقل خاطئة)، بل أن تعبّر عن الشعور بالحياة ( Lebensgefühl)»[26].
هكذا، فجأة يلجأ كارناب إلى ما تعلّمه لدى أستاذه دلتاي لتخريج الدلالة «الموجبة» الممكنة للمنطوق الميتافيزيقي بوصفه تعبيرًا عن «شعور الحياة»[27]. ربّ تخريج يزداد حدة حين يعلن كارناب بلا مواربة أنّ أفضل شكل للتعبير عن «شعور الحياة» لن يكون «نسقًا من المنطوقات» يتّخذ في ظاهره شكل «النظرية»، كما تزعم الميتافيزيقا، بل هو «الفن»:
«إنّ ما هو جوهري بالنسبة إلينا هو هذا: أنّ الفن هو وسيلة التعبير الملائمة وأنّ الميتافيزيقا هي الوسيلة غير الملائمة، لتأدية الشعور بالحياة»[28].
إنّ الميتافيزيقا غير ملائمة لأنّها تزعم ما ليس لها، فما يقودها هو «وهْمُ المضمون النظري»، والحال أنّ ذلك من خاصة العلم التجريبي فحسب. ولذلك فإنّ المنزلة الموجبة الوحيدة التي من شأن الميتافيزيقي هي كونه »في واقع الأمر لم يقل شيئًا، وإنما عبّر عن شيء ما على طريقة الفنان»، الشاعر مثلًا، ولكن مع فرق أخلاقي حاسم هو أنّ «الشاعر يفعل مثله تماما ولكن دون أن يتوهّم على هذا النحو»[29]، أي دون أن يتوهّم أنّه ينتج «منطوقات» مطابقة للواقع.
إنّ منزلة الميتافيزيقا إذن هي كونها «بديلًا غير ملائم عن الفن»، ولذلك بدلا من اتخاذ «الشكل المخاتل للنظرية» عليها أن تنصرف إلى «شكل الفن» بما هو كذلك، كما فعل نيتشه، «الميتافيزيقي ربما الأكثر موهبة من الناحية الفنية»، حين كتب زرادشت بأسلوب «شعري»[30].
كيف نقرأ «اليوم» اقتراح كارناب فهم الميتافيزيقا بوصفها «بديلا عن الفن»، كما كانت في وقت ما بديلا عن «الأسطورة» وعن «اللاهوت»[31]؟ «اليوم»، أي بعد أن أقلع هيدغر عن المنهج «النظري» لكتاب «الكينونة والزمان»، وانصرف بعد 1936 إلى كتابة غير نظرية وغير نسقية وما بعد-ميتافيزيقية هي أقرب ما تكون إلى التعبير الفني؟ هل أخذ هيدغر الثاني باقتراح كارناب وتحوّل من ادّعاء «المنطوقات العلمية» (الذي ورثه عن فينومينولوجيا هوسرل) إلى التفكير «الشعري» في الوجود جنبًا إلى جنب مع هلدرلين ونيتشه؟ ربّما. هذه الإجابة الخاطفة والغامضة تتطلّب إيضاحات كثيرة. أجل، نحن نفترض أنّ الفقرة الأخيرة من مقالة 1931، تلك التي تتأوّل الميتافيزيقا بوصفها في قرارها ليست سوى فنّ أو شعر لا يعرف نفسه، تشير ضمنًا إلى أنّ الهوة الفاصلة بين كارناب وهيدغر (الثاني خاصة) هي، من وجهة نظر تفكيكية، أقلّ عمقًا ممّا نتصوّر. وهو أمر يمكن أن يتوضّح متى رسمنا فكرة واضحة عمّا صار يُشار إليه بعبارة «المنعرج البراغماتي لفلسفة اللغة». ربّ منعرج هو الباب الوجيه لتحديد موضع «القراءة الموجبة» لهيدغر في ضوء المنعرج اللغوي ودلالتها.
———————–
[1] – R. Carnap, « Le dépassement de la métaphysique par l’analyse logique du langage », in : Soulez (dir.) (Éd), Manifeste du Cercle de Vienne (Paris : P.U.F., 1985), pp. 153-179.
[2] – نفسه: 155.
[3] – نفسه.
[4] – نفسه: 175.
[5] – نفسه: 156.
[6] – نفسه: 157.
[7] – نفسه.
[8] – نفسه: 157-158.
[9] – نفسه: 156،158.
[10] – نفسه: 158.
[11] – نفسه: 158.
[12] – نفسه: 159.
[13] – نفسه: 160.
[14] – نفسه: 160-162.
[15] – نفسه: 161-162.
[16] – نفسه: 163.
[17] – نفسه: 163-164.
[18] – نفسه: 164.
[19] – نفسه : 164.
[20] – نفسه: 165.
[21] – نفسه: 168-169.
[22] – نفسه: 170.
[23] – نفسه: 172.
[24] – نفسه: 174-175.
[25] – نفسه: 175.
[26] – نفسه: 175.
[27] – نفسه: 176.
[28] – نفسه
[29] – نفسه
[30] – نفسه: 177.
[31] -نفسه: 175.