أوبرا زرقاء اليمامة .. الحلم الذي تحقق | فؤاد الذرمان

تستغرق 5 دقائق للقراءة
أوبرا زرقاء اليمامة .. الحلم الذي تحقق | فؤاد الذرمان

تختتم هذا الأسبوع عروض أوبرا زرقاء اليمامة في مسرح مركز الملك فهد الثقافي بالرياض، مسدلة الستار عن أهم حدث في تاريخ المسرح السعودي. في الواقع، أشعل سمو وزير الثقافة خيالنا وارتقى بأفق توقعاتنا منذ أن تحدث في لقاء مع صحيفة الشرق الأوسط في يوليو 2021 عن حلم المسرح السعودي بتقديم وانتاج عروض مسرحية عالمية تحكي قصصنا في المملكة وتراثنا، وذكر قصة زرقاء اليمامة كمثال على ذلك.

وقد زاد فضولي وسروري شخصيا عندما تم الإعلان في فبراير الماضي في حفل مسرحي كبير في لندن حضره سمو وزير الثقافة عن إنتاج أوبرا زرقاء اليمامة. أتذكر أني اطلعت حينها على لقاء إعلامي للأستاذ سلطان البازعي، الرئيس التنفيذي لهيئة المسرح والفنون الأدائية، حول تلك المناسبة فأرسلت لأصدقائي بين فرح وأمل رسالة واتساب تقول “سعادتي لا توصف بهذا الخبر الذي يعبر عن لحظة كبرى في تاريخ الثقافة السعودية وتفاعلها مع العالم، وتعزيز حضور اللغة العربية والقصص العربية في المنتجات الثقافية العالمية.”

وقد بدأت حماستي تزداد منذ أكثر من شهر حينما تابعت بإعجاب الحملة الإعلامية عن أوبرا زرقاء اليمامة في السوشال ميديا وإعلانات الطرق؛ فقد رأيت الأوبرا ناجحة من شكل البوستر وجودة الحملة. فرغم أني أسكن المنطقة الشرقية وجدت الإعلان الجميل عن الأوبرا حاضرا في كل مكان، وقررت رغم المشاغل أني سأذهب للرياض لمشاهدتها. وكنت قبلها في ديسمبر الماضي شعرت بفرحة لإعلان مشروع تطوير الدرعية بالتعاون مع الهيئة الملكية لتطوير الرياض فوز شركة سنوهيتا النرويجية (التي صممت مجموعة من المشاريعة الأيقونية مثل مركز إثراء ومكتبة الإسكندرية ودار أوبرا أوسلو ودار أوبرا شنغهاي) بتصميم دار الأوبرا في الدرعية، باستلهام العمارة النجدية وبتكوينات وإحساس عالمي متطور.  

تداعت لي تلك الذكريات وذكريات أخرى عن أحلام وطموحات قطاع الثقافة والإبداع والمسرح عايشت شخصيا جزءا منها خلال الـ15 سنة الماضية، وخاصة أثناء عملي في مركز إثراء فترة تأسيسه. كانت فكرة إنتاج واستضافة مجموعة من المسرحيات والعروض الكبرى جزءا من أفكارنا، رغم المصاعب والقيود المرتبطة بها آنذاك، وقد تم تصميم مسرح إثراء ليستوعب الأوبرا الزائرة ولكن إنتاج أوبرا ضخمة وباللغة العربية كان طموحا ربما جاوز أحلامنا في تلك الفترة. ولكني هذا الأسبوع عشت ليلة لا تنسى أشبه بالحلم وأقرب لليقظة حين حضرت عرض أوبرا زرقاء اليمامة، وكانت تجربة مميزة بكل ما تعنيه الكلمة .. فهي تجربة من الوزن الثقيل.. اجتمع فيها المكان والناس والعمل الفني فتكاملت الأركان.

مكان الحدث

بالنسبة للمكان فهو مركز الملك فهد الثقافي الذي ولد منذ 40 سنة بمواصفات ممتازة وطموحة وربما سابقة لزمانها بمعايير ذلك الوقت، ولكنه ولد خديجا وظل بعد اكتمال البناء مغلقا من 1984 إلى 2000 حينما اختيرت الرياض عاصمة للثقافة العربية، ومنذ ذلك الوقت إلى قبل فترة وجيزة تم استخدامه في مناسبات رسمية وأقيمت فيه معارض وندوات ومحاضرات وفعاليات ولكن لا تقارن بحجم الطموح والتطلع الذي قدمته رؤية 2030. وخلال السنوات الأخيرة أقيمت فيه بعض الحفلات الموسيقية كالأوركسترا الألمانية وفعاليات كالأسبوع الثقافي الياباني، بل نظم حفلا لفرقة أوبرا لاسكالا الإيطالية العريقة وتم اختياره مقرا للفرقة الوطنية للمسرح والفرقة الوطنية للموسيقى، ولكنه في رأيي المتواضع لم يكن مركزا مثيرا للدهشة لا شكلا ولا موضوعا، ولا أتذكر أن استخدامه ارتبط بأعمال ثقافية ذات قيمة عالمية خالدة، ولعلي هنا ألوم نفسي على قلة المتابعة، ولكن للإنصاف أتذكر أني حين زرته منذ نحو 10 سنوات كنت معجبا بقاعات الضيافة وصالات كبار الزوار فكأنه كان يتميز باستيعاب استقبالات رسمية وإن بدأت وتيرة البرامج الثقافية تتصاعد فيه تدريجيا، ولكن دون شك كان المركز منذ البداية يتميز بمسرح كبير جدا قل أن تجد ما يماثله في الحجم، يتسع لـ 3000 شخص وstage  كبير يصلح لأعمال عملاقة، ولكن هذا المسرح لم ير النور حقا إلا قبل أسبوع مع أوبرا زرقاء اليمامة.

وأتذكر أني قرأت للكاتب روبرت ليسي قوله إن الملك فهد حينما كان وليا للعهد كان يطمح في رؤية مسرح كبيرا للأوبرا في الرياض يتسع لاستضافة أوبرا عايدة وأكبر منها، وكان يقول ذلك لبعض أصدقائه من الشخصيات العالمية. وأتصور أن ذلك الطموح من الملك فهد رحمه الله كان له أثر في تصميم مسرح مركز الملك فهد الثقافي الذي تم تصميمه وإنجازه بإشراف الرئيس العام لرعاية الشباب الأمير فيصل بن فهد رحمه الله، ولكن تلك الطموحات تراجعت فترة الصحوة. وعندما رأيت المركز يوم أمس اعتبرتها ولادة جديدة واستثنائية للمركز كمبنى ومرافق، بل حتى الإضاءة المعمارية المعززة للمبنى كانت متميزة وأصبح المركز مدهشا. جددته وزارة إدارة المشاريع في وزارة الثقافة وطورته كجزء من مبادرة تطوير البنية التحتية الثقافية تحت مظلة جودة الحياة. هذه الأعمال جعلته ذا مستوى مشرف جدا ويبعث على الفخر. أما المسرح فكان رائعا بالفعل. وكانت الجوانب الجمالية في تصميمه الداخلي جلية. أضاف على جمال المبنى جودة التنظيم منذ دخول الزوار البهو.

شخصيا عندما دخلت البهو أول ما قابلت شابة ذكية متألقة ذكرتني بارتباطها بالعمل في إثراء قبل نحو 10 سنوات، قائلة أنا بنتكم في إثراء واسمي ميساء الرويشد، وهي التي عهد لها مشروع أوبرا زرقاء اليمامة بتصميم عشرات القطع الفنية والإكسسوارات المستخدمة في العرض، ومن بينها أعمال فنية معقدة وكبيرة ولافتة، وتذكرت أني شاهدت ميساء تتحدث عن ذلك في مقاطع السوشال ميديا، فعبرت لها عن اعتزازي بدورها وإنجازها المهم.

المحتوى الريادي

وإذا كان مبنى المسرح حاوية للمحتوى الذي يعرض فيه، فقد كان محتوى أوبرا زرقاء اليمامة مدهشا حقا لمن يعرف الأوبرا ومن لا يعرفها. الأوبرا بدأت منذ نحو 400 سنة وعرفت بأنها عمل ترفيهي وثقافي للطبقة الأرستقراطية في أوروبا، وقد رأيت حين دخولي بهو المسرح ملامح السعوديين من الحضور رجالا ونساء، ذكرتني بالأصول الأرستقراطية للأوبرا. وبالنسبة لأوبرا زرقاء اليمامة كمنتج ثقافي وإبداعي فلا بد أن أشيد أولا بجرأة الفكرة وطموحها وجهود كل من ساهم فيها، فهي أول أوبرا سعودية وأكبر أوبرا باللغة العربية وتعد مشروعا كبيرا ومعقدا، لتعدد عناصرها والعوامل الداخلة في إنتاجها، وتمزج المحلي مع العالمي مزجا فريدا وبديعا. وكانت كما يقال “ضربة معلم” لرئيس هيئة المسرح وفنون الأداء الأستاذ سلطان البازعي، وفريق عمله، ومؤشر على قيادته الإبداعية ومستوى التمكين الذي يحظى به من قبل سمو الوزير في إطار دور الحراك الثقافي الجوهري وجودة الحياة والتواصل مع العالم في رؤية 2030.

تعودنا منذ 40 سنة على الأوبريت ولم يكن من السهولة الخروج من قفصه، ولكن بحمد الله جربنا الآن الأوبرا السعودية، وعناصرها التالي:

 
 – القصة (النص) وكان نصا شعريا ملحميا جميلا قدمه الأستاذ صالح زمنان، استلهم فيه من تراث الجزيرة العربية قصة ذات طابع أسطوري حدثت من نحو 2000 سنة أو أكثر، وتناقلتها الأجيال وأثرت المخيلة العربية. والأسطورة لإمرأة تعيش في نجد وكانت رمزا للحكمة وحدة البصر إذ كانت ترى على مسيرة ثلاثة أيام (نحو 100 كم)، وأعاد النص للأذهان قبائل العرب البائدة طسم وجديس والملك عمليق والمعارك الدائرة، وعبر عن ملامح مجتمعات الجزيرة العربية قبل الإسلام، وأدخل على النص من الخيال والفنتازيا ما عزز جماله وتأثيره.

 
 – الموسيقى وكانت جميلة من تأليف الأسترالي لي برادشو وتميزت بمعالجة إبداعية أخذت في الحسبان استلهام عالم الموسيقى السعودية، حيث حضر المؤلف عروضا موسيقية على مدى شهر كامل في جميع مناطق المملكة قبل بدء التأليف ليتذوق أنماط الإيقاعات المحلية. وأثناء عملية التأليف كان يستمع للنص المنطوق باللغة العربية لتكون الموسيقى المنسوجة متناغمة مع إيقاعات اللغة. وضمن في الأوركسترا آلات عربية كالعود والناي. شاركة أوبرا دريسدن في ألمانيا في العمل بينما كن الكورال من جمهورية التشيك. وكان قائد الأوركسترا الرئيسي الأسباني بابلو غونزاليس ومعه المصري ناير ناجي.

 
 – ⁠ التمثيل والغناء بالطبقات العليا في الغناء -وبلا مكبرات وهو ما يميز الأوبرا عن المسرحيات الموسيقية  musicals –  أدت دور زرقاء اليمامة مغنية الأوبرا الإنجليزية المعروفة ديم سارا كونولي التي تعتبر من أفضل مغنيات طبقة الميزو سوبرانو في العالم ولديها جوائز وأوسمة مرموقة. ورافقها تسعة مغنين أوبراليين آخرين 9 لديهم سجل متميز من بريطانيا وإيطاليا وأستراليا، وفيهم ثلاثة سعوديون من الشباب، هم: ريماز عقبي عازفة الناي ومؤدية السوبرانو التي عرفها الناس حينما شاركت في روائع الأوركسترا السعودية الذي نظمته هيئة الموسيقى في دار الأوبرا في نيويورك، وسوسن البهيتي التي تعرف الناس عليها وانتشرت مقاطعها في السوشال ميديا قبل 5 سنوات عندما أدت السلام الوطني في مركز الملك فهد الثقافي بأسلوب أوبرالي، ومنهم أيضا خيران الزهراني الذي يؤدي بطبقة التينور وأتذكر أني شاهدت له مقطعا قبل 3 سنوات قدمته خبيرة الأوبرا د. هبة القواس وأتذكر عبارتها اللافتة حين قالت إنه موهبة سعودية شابة ويتمتع بخامة صوت أصبح نادرا في زمننا، فمثل صوته كان موجودا بشكل أكثر قبل 200-300 سنة.

 
الإخراج: قام به المخرج السويسري دانييل فينزي باسكا الذي حرص على إشباع الأداء المسرحي بروح الصحراء. حتى أن بعض القطع الفنية الكبرى التي استخدمت في العمل استلهمت من الصحراء في المملكة. وأشرف السيد باسكا على التمثيل الذي شارك فيه نحو 150-200 من الممثلين، كما أشرف على تكامل أعمال قام بها متخصصون متميزون وفرق فنية في الديكورات والإكسسوارات والإضاءة والأزياء ومقاطع الفيديو التي أنتجت لتعزيز تجربة المشاهد.  

اتبعت أوبرا زرقاء اليمامة في إنتاجها مزيجا فريدا جمع ذوي المواهب والخبرات وأصحاب الشغف. كونها تعمل من قبل مخرجين ومغنين أجانب مع مشاركة سعودية مهمة فهذا بحد ذاته مزيج حيوي لتعزيز المحتوى الثقافي المحلي عبر نمط فني تقدره الطبقات المؤثرة في العالم، وبصفتي مشاهدًا عاديًا مهتمًا بالثقافة غير خبير بالنمط الأوبرالي، أعطي التجربة المتكاملة درجة عالية، خاصة المسرح (المكان) والقصة والموسيقى والتمثيل ومستوى الأصوات والإضاءة والاكسسوارات، وأعطي الأزياء والديكورات متوسطة إلى عالية. شيء واحد واجهت فيه صعوبة وهو نطق الحروف العربية لدى المغنيين وغالبيتهم غير عرب. لم يكن من السهولة فهم ما يقولونه عندما يغنون بالعربي، من جهة لكنتهم الأجنبية في النطق العربي ومن جهة أسلوبهم الأوبرالي الذي يجعل الكلمات أقل وضوحا. فمزاوجة إيقاعات كلمات النص العربي بإيقاعات الغناء الأوبرالي والموسيقى غير العربية مسألة معقدة. ولكن هذه النقطة أمكن التغلب عليها من خلال وجود النص على شاشات أمام كل مقعد وأمام المسرح أيضا. فالمشاهدون بإمكانهم قراءة النص عبر الشاشة، وفي نفس الوقت الاستماع للمغنين على المسرح.

وهنا أود التفريق بين فهم النص العربي حينما يغنى بأسلوب أوبرالي وبموسيقى عربية وهذا ليس فيه صعوبة في الفهم، وبين أن يكون النص عربيا والمغنيين غير عرب والموسيقى غير عربية. وحسب المغنية السوبرانو رشا رزق بالإمكان غناء الأوبرا باللغة العربية ولكن يتطلب ذلك ان يكون لدى مغني الأوبرا الناطق بالعربي المعرفة التقنية الكافية لتطويع اللغة العربية للغناء الأوبرالي.

وخرجت من عرض زرقاء اليمامة وقد أخذت جرعة دسمة وملهمة من التذوق الموسيقي الرفيع الذي يفتح أفق تفكير مختلف، وشعرت بامتنان عميق لكل من ساهم في زرقاء اليمامة. واستقر في ذهني أنها تجربة كبيرة وأولى من نوعها ستظل فارقة في تاريخ المسرح السعودي مع إدراك أنه ليس من السهل تطويع اللغة العربية للغناء الأوبرالي، ولكنه أمر ممكن وسيتعزز مع تراكم التجربة. وإذا كان رأيي ينتمي لمن لديه معرفة محدودة بصناعة الأوبرا وهم يشكلون غالبية، ولكن يهمني نمو الأوبرا السعودية والاستمتاع بها وأنها تنوع إبداعاتنا الوطنية حينما تتلاقح مع ثقافات العالم، وتكشف منتجاتها النقاب عن مواهب وخامات سعودية ستصل للعالمية بإذن الله إذا ستمرت في الحصول على الفرصة والدعم، وتعزز قدرتنا على التفاعل مع العالم الرحب بلغة الفن والموسيقى وبمحتوى ثقافي أصيل من بلادنا، وأتذكر ما قال سمو الأمير بدر الفرحان بأن مثل هذا العمل يحمل إمكانية تحقيق التقارب بين شعوب العالم ويمثل نقطة التقاء بين الفنون والثقافات وهذا أحد أسمى أهداف الثقافة.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.