ترجمة: محمد حسين – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
كيف تعارض المنطق مع الميتافيزيقا أو كارناب وهيدغر والافتراق العظيم
في الثلاثين من مارس عام 1929، كان الفيلسوفان الألمانيان رودلف كارناب ومارتن هيدغر يتمشيّان سويًّا بالقرب من مرتفعات دافوس الباردة في سويسرا. كان هيدغر حينئذٍ في التاسعة والثلاثين من عُمره وعلى بُعد خطواتٍ من ذروة المجد والشهرة. قبلها بعامين، نشر هيدغر كتابه الوجود والزمان؛ كتابٌ حاول فيه أن يقول شيئًا حول معنى “أن يكون” الشيء، ومن ثمّ حول طبيعة الكينونة الإنسانية وشروطها الضرورية. كذلك سرعان ما لَحِقَ بالكتاب قدر من سوء السمعة؛ نظرًا للغته النثرية العصيّة على الفهم بجانب نحت المصطلحات الغريبة المُحيِّرة (لعلَّ أشهرها: الكائن-الملقى به-هنا-وهناك [في-العالم] الموجود-بالقرب-من [الموجودات والأشياء التي يلتقي بها في-العالم]؛ وقد رفق بنا هيدغر حين اختصر هذا المفهوم الأخير إلى “الاهتمام”). وبغض النظر عن أوجه الخلَل في الكتاب، إلا أنه أحدث ثورة في الفلسفة بلا ريب.
كان كارناب، الذي يصغر هيدغر بعامٍ ونصف، يوقِّر رفيقه الذي حقَّقَ قدرًا أكبر من الإنجاز وإثبات الذات. لم يكن قد قرأ بعدُ كتاب الوجود والزمان، رغم أنه قرَأه في العام اللاحق، متباهيًا بأن أصدقاءه “كانوا مندهشين لقدرتي على قراءة هيدغر وفهمه”. بل إن كارناب كتب عن هيدغر أنه “رائع من الناحية الشخصية”، وهو الانطباع الذي يبدو أنه لم يحظَ بالذيوع والانتشار. فبإجماع الآراء، كان هيدغر على قدرٍ من الصلافة ويفتقر إلى الدعابة، دميمًا وغيرَ مخلص. أمّا ما كان عليه من تكلّفٍ وتصنّعٍ فقد جعل معاصريه يتذمّرون ويلمزونه بأنه: أحيانًا يرتدي كهيئة الفلاح وهو لم يكن فلَّاحًا قط، أو أنه يأتي إلى المحاضرات مُرتديًا زِيَّ التزلّج.
تطرّق حوار الفيلسوفين بالقرب من جبال الألب إلى “مسألة الوجود“، وكذلك إلى “الحاجة إلى حلٍّ“، وهُما هاجسان ملازمان لهيدغر. بيدَ أن كارناب أصرَّ على جرِّ أطراف الحديث إلى ميدان اهتماماته الفكرية الخاصة؛ إذ كان قد قطع مؤخرًا خطواته الأولى على الطريق الصاعد نحو الاعتراف به فلسفيًّا وتقديره. ففي العام السابق، نشر كارناب أوّل مؤلفاته الهامة: “البناء المنطقي للعالم” (1928)، كما ساعد في كتابة بيانٍ لمجموعة من المفكرين انضم إليهم وعُرفوا باسم: “حلقة فيينا“. كانت هذه النصوص بمنزلة إعلانٍ عن ثورةٍ فلسفية ظهر فيها منهج جديد قائم على التحليل المنطقي، منهج قد يُقِيمُ الفلسفةَ أخيرًا على أساسٍ متين.
لعلَّ لقاء دافوس هذا كان المرَّةَ الأخيرة التي يُفكّر فيها الفيلسوفان معًا وعلى أرضٍ واحدة، سواءً بالمعنى المجازي أو الحرفي. ففي عام 1932، شنَّ كارناب هجومًا ضاريًا على هيدغر ناعتًا إيّاه بأنه “موسيقيّ بلا قدرات موسيقية”، وهي إهانة بالغة بالنسبة لـ امرئٍ يعتبر نفسه باحثًا في أعمق القضايا والأسئلة الفلسفية التي يمكن تخيّلها. بعد ذلك، انضم هيدغر عام 1933 بحماسةٍ إلى الحزب النازي، بل بدا أحيانًا أنه يتخيّل نفسه كفيلسوفٍ-قيصر، ولم يتبرَّأ يومًا من انضمامه إلى الحزب النازي. أمّا كارناب، المعروف بميوله الاشتراكية، فقد فرَّ من الفاشية نهائيًّا ولجأَ إلى الولايات المتحدة.
ولكن الافتراق بين هذين الرجلين لم يكن محضَ مسألةٍ شخصية تتعلق باندفاعٍ أخلاقي أو سياسي. فحيثما التقت وجهات نظر هيدغر وكارناب، وحيثما انفصمت، ولأيّ سببٍ وقع هذا الانفصام، هذا كلّه يكشف عن نهجين متعارضين بشكلٍ جذري في التفلسف. ومن ثمّ، فقد شقَّ هذا الخلافُ الفكرَ الغربي إلى شطرين متقابلين، ولا يزال يتردد صداه إلى يومنا هذا. فهل تنشأ الفلسفة من موقف الرهبة، حيث التركيز بدأبٍ على محاولةِ وصفِ ما تثيره الحياة من صخبٍ وحيرة؟ أم أنها الملاحقة الدقيقة والواعية والعقلانية للحقيقة، حيث نواصل تقديم الحُجج المنطقية المضنية من أجل الوصول إلى الوضوح العلمي حول طبيعة وجود العالم؟
بعد لقاء دافوس بفترةٍ وجيزة، ألقى هيدغر محاضرة مكثفة ومحيِّرة إلى حدٍّ ما، بعنوان: “ما الميتافيزيقا؟“؛ بهدف سبر غور “الكينونة” بألِفٍ ولام التعريف. أيّ إنه أراد التفكير حول ماهية الوجود ذاته، ما حقيقة “الوجود كما هو موجود”، على حدّ تعبيره، وكيف نعاين نحن البشر خبرةَ هذا الوجود. هذه التساؤلات والتحقيقات تمتد عميقًا وتضرب بجذورها إلى القضية الجوهرية الأساسية حول معنى التفلسف ودلالته. ولإنجاز هذا الأمر، يحاول هيدغر إثارة أحد أشكال الصدمة الفلسفية التي ستُنشئ منظورًا جديدًا (وأكثر “أصالة وبدائيّة” بلغة هيدغر) حول ماذا يعني أن تكون كائنًا بشريًّا. وقد وصف أحد الحاضرين المحاضرة بعد انتهائها بقوله: “لقد شعرت لوهلةٍ كما لو أنني حدّقت في جوهر العالم وأُسسه”.
وهذا هو نمط رد الفعل الذي سعى إليه هيدغر: أن يزحزح مستمعيه عن مواقفهم الفلسفية القانعة الراضية، أن يُسائل ويُشكك في المسلَّمات التي تبدو بسيطة وأساسية بشكلٍ استثنائي حتى إنها في الغالب لا تخضع للمساءلة والفحص. أراد الإشارة إلى ما لا يمكن رؤيته لشدة قربه. عُرِفَ هذا الأسلوب في التفكير باسم: “فلسفة الحدث“. ومن الأمور الأساسية بالنسبة لرؤيته ولافتراقه عن كارناب أن ما يقصد إليه غالبًا هو أن يطبع في النفوس لحظة من الدهشة الفلسفية عبر قدح شرارة من القلق الوجودي ليثير الاندهاش والتعجب من أننا موجودون.
ينطلق هيدغر من أنّ كل علم من العلوم، التي يفهمها على نحوٍ واسع (للغاية) لتشمل كل شيء من الرياضيات إلى التاريخ، يُعنى بفئةٍ محددة من الأشياء الكائنة في العالم. حسنًا: لا خلاف في هذا الأمر إلى حدٍّ كبير، بل إنه يبدو بديهيًّا. لكن الخطوة التالية أكثر إشكالاً. كلُّ علمٍ يُعنى بفئةٍ محددة من الأشياء الكائنة، ولا شيء وراء ذلك. وهنا تصبح الأمور موضع خلافٍ شديد. ثمّ يسأل هيدغر:
ولكن ما شأن هذا “اللاشيء”؟ هل من المصادفة أن نتكلَّم هكذا من تلقاء أنفسنا بشكلٍ طبيعي تمامًا؟ هل هو مجرد أسلوب في الحديث، ولا شيء وراء ذلك؟
هذا التساؤل الجامح الأقرب إلى الجنون يُقحم هيدغر في أتون مناقشة “اللاشيء“. كتب هيدغر: “إذا كان العلم على حقّ، فهناك شيء واحد مؤكّد: يأمل العلم ألاّ يعرف شيئًا عن اللاشيء”. أيّ إن موضوعات البحث العلمي، مهما تكن، هي فقط الأشياء الكائنة التي يهتم بها العالِم، ولا شيء وراء ذلك. يتلاعب هيدغر بهذا التعبير “لا شيء وراء ذلك”، حيث يوضحه ويمثله بكلمة اللاشيء. يريد العلماء تكوين معرفة عن بعض الأشياء الكائنة، وليس عن اللاشيء.
المشكلة هي أنه في اللحظة التي نحاول فيها الإمساك بهذا اللاشيء، فإنه ينفلت منَّا وينسلُّ بعيدًا. إذا حاولنا أن نقول شيئًا عن اللاشيء، فلعلَّنا نقول “اللاشيء هو كذا وكذا” وهذا تناقض؛ لأنّ اللاشيء ليس شيئًا كائنًا. إنه ليس أيّ شيءٍ على الإطلاق. والمنطق ذاته يستبعد أيَّ بحث إضافي عن اللاشيء. فالمنطق هو الحَكَمُ الأعلى: إنه يوصد الطريق أمامنا، يضع حدًّا للنقاش، يُطلق صافرةَ نهاية وقت اللعب. إنه يُشير إلى أنّ هذا أمر علينا أن نتجاوزه ونتغاضى عنه في صمت.
لكن هيدغر لا يترك المنصة ويُنهي المحاضرة عند هذه النقطة، فلديه قدر كبير عجيب مفزع ليقوله عن اللاشيء، وإن كان بطريقةٍ غير مباشرة؛ وإنما عبر الإشارة، والإيماء، والإلماح، والأكثر من هذا كلّه؛ عبر نحت مصطلحات غريبة مُحيّرة مُحبطة. ولن يقف المنطق في طريق هيدغر، فالمنطق، كما يقول، ليس “محكمة الاستئناف العليا”. يقصد أنه بإمكان البشر فهم الأمور بطرقٍ غير عقلانية بالمعنى الدقيق الصارم. ففي حياتنا اليومية، نتحدث عن “لا شيء” طوال الوقت. (“ماذا فعلت في المدرسة اليوم؟” “لا شيء”). يقول هيدغر إنّ بإمكاننا استعمال المفهوم بهذه الطريقة؛ لأن لدينا فكرة مُسبقة أن “لاشيء” هو كذا وكذا. والوصول إلى حيث هذه الفكرة المسبقة عن معنى “لا شيء” هو قلب فلسفته إجمالاً وجوهرها. فهذا يعني “تجاوز” المنطق، أو “تخطيه” للوصول إلى كيف هو الوجود كشخص. يريد هيدغر أن يعرض –ولكن لا يبرهن- فكرة أن المنطق لا يعالج ما يمكننا أن نقوله عن الوجود على نحوٍ دال ومُعبِّر.
كما يقول هيدغر فمن خلال الحالة المزاجية مثل الملَل أو الفرح أو الغضب، “يكشف” العالم لنا عن نفسه
هذا النمط من التفلسف له جاذبية بديهية تلقائية، ففي دوّامة حياتك اليومية –حين تستيقظ، تتناقش مع زوجك، وأنت في العمل، تقرأ، تتناول الطعام، وأنت تطلب السماح من زوجك، إلخ- هل تُنظِّر حقًّا لهذه الأعمال حين تفعلها؟ بشكلٍ عام، أنت على الأرجح، بلا مبالاة مُريحة، لا تعاين أفعالك الخاصة، ولا تُحلّل اعتقاداتك التي تتأسس عليها نواياك ومقاصدك، ولا تفحص كيف تجتمع الأجزاء المختلفة لتُشكِّل الكُلَّ. لكنك، بالأحرى، تتعامل مع المهمة التي بين يديك، فقط تواجه الأشياء وتتعامل معها دون أن تسأل نفسك ماذا يعني، حقًّا، ما تقوم به بالفعل (رغم أننا جميعًا نمرُّ بمثل هذه اللحظات التأملية، أيضًا). وحين تواجه الأشياء الكائنة في العالم، فإن خبرتك تمرُّ دومًا عبر أحوال مزاجية، كما يقول هيدغر، وليس عبر أفكار تنظيرية. في واقع الأمر، نادرًا ما تحتاج الأفعال ذاتها إلى التفكير فيها، بل تُصبح أكثر صعوبة إذا بالغت في التفكير فيها وتمعّنها.
يرى هيدغر أنه ينبغي للفلاسفة أن ينتبهوا لأحوال الناس المزاجية وممارساتهم، لا أن يحاولوا تشييد نظريات كبرى معقدة (رغم أن هذا هو أغلب ما يقوم به هيدغر في كتابه: الوجود والزمان). وذلك نظرًا لأنّ الحياة تُعاش من خلال المشاعر التي هي ذاتها ليست عقلانية. من خلال الأحوال المزاجية، مثل الضجر والفرح والغضب، يحضر العالم معنا أو، على حدّ تعبير هيدغر، يتكشَّف لنا. أمَّا “الموقف النظري”، الذي يَفترض معظمُ الفلاسفة أنه نقطةُ انطلاق فلسفاتهم، فهو الاستثناء في واقع الأمر، وهو دومًا أبعد من الخبرة الواقعية المعيشة. إنّ قبول الموقف النظري بلا تفكير، كما يقول هيدغر، يحجب حقيقة الكينونة التي يعتبرها هيدغر الغايةَ الحقيقية للفلسفة.
والآن، إلى هذه النقلة. السبب في أننا نُلقي بكل سهولة بهذا التعبير “لا شيء” –السبب في أنّ لدينا فكرة محدودة عن الـ “لا شيء” حتى ولو كنا لا نستطيع الحديث عنها مباشرة- هو أن ثمَّة حالة مزاجية بعينها “تكشف” الـلاشيء. هذه الحالة المزاجية هي القلق. فبينما يكون الخوف خوفًا من شيء مُحدَّد، مثل عنكبوت توَّاق إلى الانتقام أو شخصٍ فظٍّ سفَّاح، فإن القلق لا يتجه إلى شيء مُحدَّد، إنه يُقصي المعنى بعيدًا ويُنحّيه، يكشف عن خواء المعنى تمامًا ولا جدواه، عن العقم الشامل للوجود وخوائه التام. حين نسمع رنين الهاتف، ليس القلق هو ما يدفعنا للإمساك بالهاتف والرد، أو التساؤل بكسلٍ من تُراه يتّصل بنا؛ وإنما القلق هو ما يجعلنا نتساءل ما الذي يدفع أحدًا لأن يكلّف نفسه عناء الاتصال بأيّ أحد أصلاً، وذلك على حدّ تعبير الفيلسوف الأميركي هوبرت دريفوس. ويبدو الأمر أشبه بتجربةٍ شخصية روكونتين في رواية “غثيان” (1938) لجان بول سارتر:
“لقد كشف العالَمُ العاري نفسه فجأة، وحاصرني بقوة هذا الوجود الفظ المُحال. لا تملك حتى السؤال من أين نشأ كل هذا، أو كيف ظهر عالَمٌ إلى حيّز الوجود، ولم يكن عدمٌ. بدا الأمر غير مفهوم وغير معقول، كان العالم في كل مكان، من بين يدي، ومن خلفي. لم يكن شيء موجودًا قبله. لا شيء”.
في خضم القلق وذروته، فجأة يبدو العالم هشًّا وغير ضروري. يكشف القلقُ لنا المعنى الحقيقي المُخيف لـ “اللاشيء”. وكما يقول هيدغر، فإن القلق “يُثير إنفلات الكائنات في كُلّيتها”. وكما أوضح الفيلسوف الألماني روديغر سافرانسكي في كتاب له صدر عام 1998 بقوله:
“هذا “الانفلات” يُقيّد علينا الخناق ويستنزفنا في الوقت ذاته. يستنزفنا لأن كل شيء يفقد معناه ويغدو لغوًا وخواء. ويقيدنا لأن الخواء يَنفذ إلى الشعور بالذات ويتسلَّل إليه”.
لكن هيدغر يفعل بعد ذلك شيئًا غير متوقع. هذا القلق، هذه الحالة من تقليب النظر في خلوّ العالم من المعنى، وضياع منزلتنا الخاصة المميزة فيه، ينشأ عنه شيء رائع: الدهشة. الدهشة أننا هنا، نطرح هذه الأسئلة. يقول هيدغر إننا، عبر القلق، نُقدّر من جديد الحقيقة الواقعية الاستثنائية بأن العالم موجود. يفتح القلق أُفقًا يظهر فيه بقوة ماذا يعني أن تحيا. وفي نهاية المطاف، نعود إلى اللغز الاصلي الأساسي، الذي يمثّل البذرة التي نبتت منها شجرة الفلسفة، وهو: “لماذا كان وجودٌ، ولم يكن عدمٌ؟”.
رفض كارناب كل هذا؛ إذ وصل إلى قناعةٍ بأن هيدغر غلب عليه الزهو والتخبط وعدم الدقة. وللتعبير عن هذه القناعة، شنَّ هجومًا مُركّزًا عبر كتابة ورقة بعنوان: “القضاء على الميتافيزيقا عبر التحليل المنطقي للغة” (1932). انتقى كارناب عباراتٍ شائكةً بعينها من محاضرة هيدغر، واستخدمها كمثال على إفلاس التفكير الميتافيزيقي وغموضه المتعمد. أصبح هيدغر “فتى المُلصَق” أو النموذج النمطي للفلسفة الرديئة: الغموض والإبهام والإسهاب واللغو.
رأى كارناب، وكثيرون غيره، أنّ معظم الفكر الميتافيزيقي مجرد هراء. ولتوضيح الأمر بعض الشيء، اعتقد كارناب أنّ ما يفعله الفلاسفة في الأغلب حين يكتبون عن الميتافيزيقا هو أنهم يؤلّفون عبارات خاوية دلاليًّا، يُسمّيها كارناب: عبارات زائفة. تبدو هذه العبارات ذات الطابع الميتافيزيقي وكأنها تقول شيئًا عميقًا، طالما أنها صحيحة نحويًّا. لكن تدقيق النظر فيها يكشف، ليس فحسب أنّ ما من شيء عميق يُقال، بل لا شيء يُقال على الإطلاق. وينبغي للفلاسفة، كما اعتقد كارناب، أن يقولوا شيئًا ذا معنى.
وضع كارناب وفلاسفة “حلقة فيينا” اختبارًا لتحديد ما إذا كانت العبارة ذات معنى أم لغوًا وأطلقوا عليه اسم: “مبدأ التحقق“. وبإخضاع العبارات لهذا الاختبار، يمكننا تحديد أيّ العبارات ذات معنى وأيّها عبارات زائفة خاوية من المعنى (لعلَّ الأليق بها أن تُلقى في اللهب للتدفئة، بحسب رأي الفيلسوف الاسكتلندي دافيد هيوم، الذي عاش في القرن الثامن عشر، حيث رأى أنّ هذا هو المصير المناسب الذي يليق بكل الكتابات الميتافيزيقية).
ثمَّة مقاربتان لمبدأ التحقق: منطقية (أو “صورية”)، وتجريبية (للدلالة الضمنية). بالنسبة للمقاربة المنطقية، يقول كارناب: “إنّ بناء الجملة وتركيبها في أيّ لغة يُحدد أيّ التراكيب مقبول جائز وأيّها غير مقبول مردود. على سبيل المثال، العبارات التي يكون المحمول (الخبر) فيها مُستعمَلاً على نحوٍ لا يتناسب مع الموضوع (المبتدأ) هي عبارات خالية من المعنى، ومن ثمّ فعبارة مثل: جون ميجور عدد أولي، هي عبارة خالية من المعنى منطقيًّا.
مستخدمًا منجله المنطقي، يشرح كارناب هيدغر
بالنسبة للمقاربة الثانية، يقتضي التحقق التجريبي أن لا بد للعبارات أن تكون قابلة لإثبات صدقها أو كذبها. على سبيل المثال، العبارة التالية: “يحتوي جسم الطفل على 300 عظْمة، ويحتوي جسم الشخص البالغ على 206 عظْمة”، هذه عبارة ذات معنى لأنه يمكن التحقق منها عبر فحص عدد العظام في جسم أحد الأطفال وعدد العظام في جسم أحد البالغين، وبناءً على المُعطيات وعلى تعريف كلمة “عظمة”، ومن ثمّ يمكننا القول بأن الأمر هكذا بالفعل (تلتحم عظامنا مع تقدم العُمر). أو لنأخذ العبارة التالية: “كل الناس لهم رؤوس أكبر من رأس الثور”، هذه أيضًا عبارة تخضع لمبدأ التحقق، حيث يمكننا أن ننظر إلى رؤوس الناس وإلى رؤوس الثيران، ونرى أنها عبارة كاذبة، فللثيران رؤوس ضخمة. ومع ذلك، فالعبارة لا تزال ذات معنى. إذن، الخلوّ من المعنى لا يعني أنّ العبارة “كاذبة”: فالحكايات الخرافية، كما يقول كارناب، ذات معنى بامتياز رغم أنها كاذبة. وبالأحرى، فإن مسألة “الصدق” و”الكذب” لا محلّ لها حين يتعلّق الأمر بكون العبارات ذات معنى أم خالية من المعنى. الجهة مُنفكَّة ببساطة. ومن ثمّ، فإن مبدأ التحقق، من وجهة نظر كارناب، يُثبت أنّ الميتافيزيقا (وفلسفة الأخلاق كذلك) تتألّف من عباراتٍ زائفة: إنها لا تعني أيّ شيء على الإطلاق.
كان مشروع كارناب الأوسع يتمثّل في إعادة تعريف الفلسفة ذاتها. أراد للفلسفة أن تكون “منطق العلم”، وأراد حلَّ مشكلات فلسفية كثيرة من خلال بيان أنها ليست سوى مجرد مشكلات في ظاهر الأمر. إن وجود تحليل منطقي –وكذلك لغة منطقية مثالية- من شأنه أن يقضي على فوضى استعمالنا للكلمات في حديثنا اليومي، حيث سينقحها ويزيدها وضوحًا. وفي نهاية المطاف، ستختفي معظم المشكلات الفلسفية وتذوب بتأثير المنطق؛ إذ يتبيّن حينئذ أنها مشكلات زائفة ناشئة عن إساءة استعمال اللغة. ولِمَ لا نودُّ إنجاز هذا الأمر؟ لأنه لطالما كان هناك دومًا فلاسفة يقيئون لغوًا غريبًا ولكنه مُضلِّل. ومن ثمّ فإن فكرة ابتكار منهج للتأكّد من أننا لا نقع في مثل هذا، أو لن نتمكّن من الوقوع فيه، مرة أخرى، وذلك حتى نربط تطور الفلسفة بسارية سفينة العلم لتلحق به وتسايره؛ ما الغريب في هذه الفكرة ليعارضه البعض؟
مُتسلّحًا بالمنطق، وجّه كارناب ضرباته إلى هيدغر. وهكذا، أوضح أن كل العبارات التي تحتوي على تعبير “اللاشيء” هي مجرد لغو. وكما ذكرنا أعلاه، فإن استعمال كلمة “لا شيء” كمبتدأ والقول بأنها “تكون” كذا وكذا، هذا مجرد لغو وهراء؛ وذلك كما يقول كارناب: “إن وجود مثل هذا الكيان يتعارض أصلاً مع طبيعته وماهيته”. يرى كارناب أن هيدغر يقدّر الاعتراض الذي يقول إنّ العبارات التي تدور حول “اللاشيء” تتعارض مع المنطق، بيد أن هذا لا يخفّف من حدة نقده لهيدغر أو يمنعه من أن يوسّع هذا النقد ليشمل جمعًا ممّن ارتكبوا جناياتٍ فكرية، مثل: نيتشه، وشيلنغ، وهيغل، وبرغسون. يعتقد كارناب أنّ التحليل المنطقي ومبدأ التحقق يمثّلان ثورة بشأن ماذا يعني أن تقول شيئًا ذا معنى.
بعد أن قرأ هيدغر الورقة، استخفَّ بها، وترفَّع عن الردِّ علانية. ولكنه علَّق عليها بشكلٍ شخصي بأن غريمه يعتقد أن “الصدق تحوّل بالأحرى إلى اليقين، وذلك من أجل تحصين الفكر، ليس إلّا، وفي حقيقة الأمر تحصين الفكر الرياضي ضد كل ما لا يمكن التفكير به عبر منهج الرياضيات”. ومن الطريف، أنّ كارناب اتفق مع هذا الرأي على الأرجح.
لعلَّ شخصًّا حادَّ الذهن مثل لودفيغ فتغنشتاين يتّسع عقله الفطِن بالفعل لفهم هيدغر حقًّا. فبعد أن قرأ فتغنشتاين محاضرة هيدغر، علّق قائلاً:
“بلا شكّ، بإمكاني تخيّل ما يعنيه هيدغر بالكينونة Sein والقلق Angst. يشعر المرءُ بالرغبة المُلحّة في تخطّي عائق حدود اللغة. فكّر مثلاً في الدهشة من أن أيّ شيء موجود أصلاً. هذه الدهشة لا يمكن التعبير عنها في صورة سؤال، وما من إجابة لهذا السؤال مهما قلنا. فأيّ شيء نقوله محكوم عليه قبليًّا بأنه مجرد لغو. ومع ذلك، فنحن نصارع لتخطي عائق حدود اللغة”.
أغلب الخلاف بين هيدغر وكارناب يتلخّص في فكرة “الحدود”: حدود الكلمات، حدود المعرفة، حدود التعبير. والحدود بطبيعتها تثير أسئلة حول البدايات: من أين نبدأ حين نتفلسف، وكيف تؤثر نقطة البداية في الوجهة التي نتوجّه نحوها؟ وجد كارناب في المنطق أرضًا ثابتة ليبدأ منها فلسفته الخاصة، وليُعبّر عن نمط التفكير الذي يجدر تصنيفه على أنه تفكير “فلسفي” حقًّا. أمّا هيدغر فيرى أنّ المنطق مُفيد، ولكنه لا يكفي، إذ لا يزال هناك الكثير والكثير لنقوله، الكثير والكثير من التساؤلات، الكثير والكثير مرتبط أشد الارتباط بكوْننا أحياء.
كان كارناب على قناعةٍ أنّ عبر التحليل المنطقي، طوّر أداةً قَضَتْ “جذريًّا” على الميتافيزيقا. ولكن حتى مع تسليمنا بأن الميتافيزيقا لغو، فما هذا الذي دأب الفلاسفة على ممارسته طوال تلك السنين؟ أين تذهب هذه الجاذبية المتواصلة التي أبقت هذه القرون المتطاولة من الكلام الذي يُفترَض أنه لغو؟ كيف خُدِعَ هؤلاء جميعًا؟ هنا نجد افتراقًا عجيبًا بين كارناب وهيدغر.
الميتافيزيقا، من وجهة نظر كارناب، هي “تعبير عن الموقف العام للمرء تجاه الحياة”. ثمَّة حاجة أساسية ضرورية لدى البشر أن يحاولوا التعبير عن مشاعرهم حول الوجود. كثيرًا ما نجد أنفسنا مُحبَطين، ومنتصرين أحيانًا، لكننا لم نصلْ قط إلى الكمال أو الرضا التام. كلُّ إنسان، كما يقول كارناب، له موقف تجاه “المهام التي كرَّس نفسه من أجلها، وتجاه ما يصيبه من مكروهٍ وبلوى”. نُعبّر عن هذا الموقف من خلال الموسيقى، والرسم، والشِّعر؛ نعبّر عنه، في حقيقة الأمر، من خلال جميع المحاولات والمساعي الفنية الرفيعة. إنّ الميتافيزيقا، وفي واقع الأمر معظمُ ما فُهِم تقليديًّا بأنه “فلسفة”، من جنس هذا الدافع التعبيري ذاته. ما يُزعج كارناب في الميتافيزيقا هو النفاق؛ أنها “تَظهر من خلال شكل كتاباتها على غير حقيقتها”. إنّ الميتافيزيقا لا تعمل في الواقع مثل الشِّعر؛ إذ يعتقد الميتافيزيقيون أنهم يُنظّرون عن العالم بطريقةٍ يعرف الشعراء أنها ليست طريقتهم.
الحقُّ أن هيدغر وكارناب كلٌّ منهما أقرب إلى الآخر أكثر ممّا يبدو لأوّل وهلة. يقبل هيدغر بهذا التشابه بين الفلسفة والشِّعر، ولكنه لا يرى مشكلة في هذا الأمر، في حين أن كارناب يعتبره مشكلة. رؤية كارناب للفلسفة أنها يجب أن تكون مُحكَمةً وصادقة. يريد أن يفكر ويتكلَّم بأقصى حدٍّ من اليقين، والمنطق وسيلته لذلك.
“تحدث” الحياة في لحظات الإضمار هذه – فحقيقة أنه يوجد إضمار تعني أن ثمَّة شيئًا ليُقال عنه
أمّا هيدغر فيرى أن مهمة الفلسفة أن تتصدى لتحدّي وصفِ ماذا عساه يكون الوجود، ما الكينونة ذاتها. يقتضي مِنَّا هذا الأمرُ أن نُطوِّع تفكيرنا ليتجاوز الحدود الضيقة للغة والمنطق، ونقبل بأن سبر أغوار الوجود يتطلّب ما هو أكثر من مجرد اللغة والمنطق. كتب هيدغر إن “فكرة ‘المنطق’ ذاتها تتهافت وتتحطم في دوامة تساؤلٍ أكثر أصالة”.
ومن ثمّ، كان الأمر جديرًا دومًا بمحاولة قول شيء عن ما لا يُقال. في واقع الأمر، وبحسب إشعيا برلين، فهذا هو العمق ذاته. يقول برلين إنه حين يتعلّق الأمر بالموضوع المناظر للعمق في الفن:
“كلَّما قلتُ أكثر، يبقى الكثير ليُقال … وبمجرد أن أتكلَّم يتضح تمامًا أن هُوَّةً جديدة تنفتح وصدوعًا تظهر، بصرف النظر عن مُدّة كلامي. مهما يكن ما أقوله، عليَّ دائمًا أن أترك ثلاث نقاط في نهاية الكلام. مهما يكن الوصف الذي أقدّمه، فإنه يفتح الأبوابَ دومًا لشيءٍ آخر، شيء لعلَّه يكون أكثر إبهامًا والتباسًا، لكن من المؤكد أنه شيء لا يقبل من حيث المبدأ الاختزالَ إلى نثرٍ موضوعي صارم واضح قابل للتحقق منه”.
“تحدث” الحياة في لحظات الإضمار هذه. ويرى هيدغر أنّ علينا أن نحاول قول شيء عن هذا الإضمار، فحقيقة أنه يوجد إضمار تعني أن ثمَّة شيئًا ليُقال عنه، ربما بطريقةٍ غير مباشرة، بل وربما بطريقةٍ غير واضحة بما يكفي. بيد أن هذا لا يعني أن نتخلّى عن كل الجهود الممكنة لاستعمال الكلمات للحديث عن أشياء تقع وراء حدود هذه الكلمات. في واقع الأمر، فإن كبح جماح هذه الرغبة يتعارض مع الغريزة الموجودة في كل إنسان والتي قَدَحَ شرارتَها ما يعترينا من شعورٍ بالعَجَب والدهشة من أننا أحياء.
إنّ الشعور الذي يعترينا عند الفجوات أو لحظات الإضمار الذي يشغل هيدغر –الشعور بأن هناك ما هو “أكثر”- يتكشّف في لحظاتٍ غريبة ولا يمكن تصوّرها غالبًا. كان آرثر شوبنهاور يشعر به على قِمم الجبال وقتَ الفجر. وكان هذا الشعورُ يداهم فريدريك نيتشه في منزله الصيفي في سيلز ماريا بسويسرا. هذه اللحظات، الأشبه بفكرة “تجربة الذروة”، ليست سِمةً قاصرةً على فئةٍ قليلة من الفلاسفة. فهذا فاتسلاف هافيل، الكاتب التشيكي الكبير، والسياسي المنشق ثمّ رجل الدولة، وهو في السجن في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، نظر إلى شجرة خلف نافذة زنزانته، وكان هذا كافيًا لقدح شرارة لحظة متعالية، كتب عنها في يومياته:
“ما إن رأيتُ اهتزاز أوراقها، الذي يُدرك بالكاد، مقابل صفحة السماء الممتدة اللانهائية، داهمني شعورٌ يصعب وصفُه: فجأةً، بدا الأمر وكأنني أسمو فوق حيّز وجودي اللحظي الضيق في العالم إلى حالةٍ خارجَ الزمان، حالة احتشدت واجتمعت فيها كلُّ الأشياء الجميلة التي رأيتها وجربتها في حياتي، كلّها مجتمعة في وجودٍ كلّيّ آنيّ معًا”.
وهذا برتراند راسل، الذي لم يكن مُتيّمًا للغاية بمثل هذه الحالات التي يعتبرها حالات من التحليق الخيالي رومانتيكية زائفة، ومع ذلك فقد مرَّ بشيءٍ قريب من هذه الفكرة حين كتب عن حالةِ “استبصارٍ” صوفي عام 1914:
“قبل كل شيء، ثمَّة إيمان بالاستبصار كشيء مُضاد للمعرفة التحليلية الخطابية: الإيمان بطريقةٍ أقرب إلى الحكمة، بطريقةٍ مُباغتة، نافذةٍ مقتحمة، قهرية، وهي طريقة مقابلة للدراسة البطيئة العُرضة للخطأ للمظهر الخارجي بواسطة علمٍ يعتمد على الحواسّ كليًّا … ينبغي أن يُمدَح التصوف ويُوصَى به كموقفٍ تجاه الحياة، وليس كمذهب عن العالم”.
هذا هو الجانب الذي انتقده كارناب في تأملاته الخاصة حول “الموقف من الحياة”. يعتقد كارناب أنه ليس من مسئولية الفلسفة أن تتناول مثل لحظات “الإضمار” هذه (مهما يكن ذلك الإضمار)، وذلك، بحسب فهم كارناب للأمر على هذا النحو؛ نظرًا لأن هذا المسار ينطوي على مخاطرة الوقوع في حالة من التشكك والالتباس العميق، حالة فوضوية لا منطقية. هذا الأمر يليق بالشعراء، وليس اليقِظين الساعين وراء الصدق والحكمة.
اعتقد كارناب أنه لا بُدَّ من وجود طريقة لفصل اللغو والغموض المُتعمَّد عن الفكر الصارم الصادق. ولتحقيق هذه الغاية، اقتضى الأمر أن يكون التفكير الفلسفي دقيقًا صارمًا؛ ولنقتبس من راسل مرّة أخرى، أن يكون شاقًّا مُجهدًا وتدريجيًّا وأيّ شيء إلّا أن يكون بريقًا لحظيًّا. الفلسفة هي ممارسةُ تشييدِ نظرياتٍ حول كيفية وجود العالم، وهي ممارسة صعبة بطيئة، وكذلك الحديث بوضوح ودقة عند تفسير هذه النظريات وتوضيحها. في المقابل، إذا كانت الفلسفة تنبثق من مجرد اللحظات الهيدغرية السامية، من وصف وتفسير ماذا يعني أن نكون أحياء، من تجريدنا من الحاجة إلى البرهان التجريبي؛ إذن، ألا يُصبح أيّ شيء مسموحًا؟
ثمَّة شيء آخر كان يشترك فيه كلٌّ من كارناب وهيدغر وهو جهل كل منهما -بدرجةٍ هائلة ومؤكّدة- بحدود مقاربته الخاصة. خذ مشروع كارناب لجعل الفلسفة “منطق العلم” (أو بعبارة ألفرد آير، “الفلسفة هي أحد أقسام دراسة المنطق”). يتمثّل هذا المشروع في أن كل ما يمكن للفلاسفة أن يفعلوه هو توضيح مفاهيم محددة (المفاهيم العلمية غالبًا). هذا بالأحرى إعلانُ مهمة مُثبّط مُوهِن. فحتى لو تمّت هذه المهمة وأُنجِزَت، فمن المؤكد أننا سنشعر أنه ما زال هناك الكثير لنفعله. وكما لاحظ فتغنشتاين في “رسالة منطقية فلسفية” (1921)، بعد أن افترض أنه، مثل كارناب، قد حلَّ كل المشكلات الكبرى في الفلسفة، قال إنّ “قيمة هذا العمل … أنه يبيّن مدى محدودية هذا الإنجاز وضآلته عند حلّ هذه المشكلات”. ولعلَّ شيئًا مماثلاً يمكن قوله عن مشروع كارناب، وفي واقع الأمر، حول جميع المشاريع الفلسفية التفريغية بشكلٍ جذري.
أمّا على الجانب الآخر، فيما يخصّ هيدغر، فخيبة الأمل نابعة من أننا مُضطرون للتخلّي عن شيء نفيس أيضًا: معرفة الأمور على نحوٍ يقيني. فهذه هي الفكرة المُبهجة، بل والمؤثرة، أنه يمكن التوصل يومًا ما إلى طريقةٍ للتفلسف صحيحة وتحظى بقبولٍ شامل، مما يسمح لنا بإمعان النظر فيما وراء الحجاب الذي يحول بيننا وبين البنية العميقة للواقع. إذا كنا نقبل بأن الفلسفة، بحسب الصياغة الرديئة، هي تفسير للحياة، إذن، علينا أن نودّع البحث عن منهجية محلّ إجماع تُفضي في نهاية المطاف إلى الصدق.
عبر مثل هذه المقترحات والتحديات – عبر هذه الثورات الفاشلة – تتقدم الفلسفة ذاتها وتتطور
لقد تغيّرت آراء كلٍّ من كارناب وهيدغر على حدٍّ سواء مع تقدّمهما في العُمر. فقد أخفقت ثورة كارناب وحلقة فيينا لنفس السبب الذي أدى إلى إخفاق ثورات فلسفية كثيرة: لقد أبطلتها فرضياتها الخاصة. وقد تجلّى هذه بكل وضوح في الحقيقة القاسية التي مفادها أن مبدأ القابلية للتحقق لا يمكن التحقق منه هو ذاته، على الأقل لا يمكن التحقق منه بحسب معايير المبدأ نفسه. ولكن عبر مثل هذه المقترحات والتحديات -عبر هذه الثورات الفاشلة- تتقدّم الفلسفة ذاتها وتتطوّر. وبحلول وقت رحيل كارناب في كاليفورنيا عام 1970، وهو في التاسعة والسبعين من عُمره، كان يحظى بالتقدير على نطاقٍ واسع؛ نظرًا لشجاعته وطموحه في محاولة إرساء الفلسفة على أرضٍ منهجيةٍ أكثر ثباتًا وأشدّ صلابة.
أمّا مسار هيدغر فكان أقلَّ حظًّا. فبعد انضمامه إلى الحزب النازي في عام 1933، حاول أن يوفّق أعماله ضمن ما فهمه على أنه مشروع الاشتراكية الوطنية. وكانت النتيجة “حركات بهلوانية فلسفية غريبة عن الحالة البدائية”، وذلك على حدّ تعبير سافرانسكي. عام 1966، وفي الفصل الأخير من حياة هيدغر، أجرت صحيفة دير شبيغل الألمانية مقابلة معه، وذلك بعد وقت طويل من وضوح الصورة الكاملة عن معسكرات الموت حيث صارت معروفة للجميع. ولكن بدلاً من التراجع والاعتذار عن موقفه السابق، ألحّ هيدغر على محاوريه ونبّههم أن يكونوا أكثر دقة فيما يتعلّق بطريقة انخراطه في الاشتراكية الوطنية. وبسبب ميول هيدغر النازية، أصبحت فلسفته مُلطّخةً للأبد؛ ورغم ذلك، فإن مساهمته في الحوار الممتد طوال الألفية حول أُسس العالم وطبيعة الوجود وماهية الإنسانية ما تزال تثير لحظات من التقدير الفلسفي العجيب.
كان أسلوب كلّ من كارناب وهيدغر في التفكير والتواصل، ولنعبّر بلُطفٍ، مختلفًا بشكلٍ عميق عن الآخر. وفي ثنايا هذا الاختلاف يمكننا أن نلمح الصدع، الآخذ في الاتساع، الذي طبع الفلسفة الغربية خلال القرن العشرين، حيث فصل بين منهجين أو أسلوبين للفلسفة يُطلق عليهما عادة التقليد التحليلي والتقليد القارّي (قصة هذا الصدع اضطلع بحكايتها مايكل فريدمان في كتابه: “مفترقُ طُرُق: كارناب وكاسيرر وهيدغر” [2000]). ولكن بغض النظر عن هذا الافتراق، نجد أنّ كلاً من هيدغر وكارناب اعتبر نفسه يمارس الفلسفة؛ حتى عندما كانت المسألة المتعلقة بماهية الفلسفة، والمناهج التي يجب اتباعها في التفلسف، كانت هي ذاتها مسألة تقع في قلب الخلاف الفلسفي.
لعلَّ ما يجمع كافةَ أطياف الفلسفة أن مَن يُمارسونها يسعون على الأرجح إلى تجاوز حدود اللغة. لا نملك خيارًا آخر سوى استعمال اللغة -بمفهومها الواسع العام- لتوصيل الأفكار الفلسفية، ومع ذلك فنحن نحاول دومًا تجاوزها؛ نظرًا لأنه يبدو دائمًا أن هناك المزيد ليُقال. من وجهة نظري، يرجع هذا إلى أنّ الحدث الأساسي الذي يقدح شرارةَ أيّ تساؤل عن مكاننا في العالم ومَن نكون ينبثق من نبع التعجّب الذي لا ينضب. يتجلّى هذا التعجّب في صور عديدة مختلفة، وقد نلاقيه ونُجرّبه بطرقٍ شتى تتعدد وتختلف بقدر وجود أُناسٍ يُفكّرون على وجه الأرض. ولكن لعلَّ صورته الأساسية الجوهرية، التعبير الأشمل عنه والأوضح، صيغته الأعمق، التعجّب الذي منه تنبثق الفلسفة وتنبعث، لعلَّ أفضل ما يُعبِّر عنه هو السؤال الأبدي الذي لا جواب له ولا يمكن إطفاء جذوته: لماذا كان وجودٌ، ولم يكن . . .؟
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.