إضاءات (الطريق – الدرب – الشارع) في قصائد بدر بن عبد المحسن | طامي السميري

تستغرق 5 دقائق للقراءة
إضاءات (الطريق – الدرب – الشارع) في قصائد بدر بن عبد المحسن | طامي السميري

كان الأمير الراحل بدر بن عبد المحسن يفاضل في قصائده بين استخدام هذه المفردات (الطريق -الدرب -الشارع) ولا تستطيع أن تحصل على تصور محدد وواضح لماذا يوظف هذه المفردة أو تلك في قصائده. ربما لأنه يجد في هذه المفردات مشروعية إبداعية لوصف مشاعره ويجدها أيضا تستحق الاستثمار في صور شعرية مختلفة ومبتكرة. ففي بعض القصائد نجده يستخدم مفردتي (الطريق –الدرب) وهذا ما نلاحظه في أغنية “ابعتذر” حيث نجده في البداية يختار مفردة الدرب ويقول:

“إن ضايقك إني على بابك أمرّ … ليلة ألم. واني على دربك مشيت عمري وأنا قلبي القدم.”

لكنه وفي ذات الأغنية يذهب الى توظيف مفردة الطريق ليوصف حالة أخرى مغايرة وهي حالة الفراق.

“ابوعدك … كان الطريق بيبعدك.. بأمشي الطريق”.

وفي أغنية “لليل أحبك” أيضا يوظف الدرب في هذه الصورة الشعرية البصرية:

في صدري سراجٍ حزين ومكسور

“رغم المطر والريح. شلته في دربك“

ولا يكتفي بأن تكون مفردة الدرب حاضنة للوصل العاطفي، بل يذهب بها بعيدا حتى يمنحها الحضور في اللحظة الاستشرافية ليقظة العاشق ومهابته من النعاس في انتظار قدوم طيف المحبوبة:

كن السهر دربٍ عليه بتجيني

ولا ودي أقطع درب لاماك برقاد

وربما تأتي مفردة “الدرب” بحالة فيها المشاعر تعيش حالة مرتبكة في لحظة من لحظات تداعيات العاطفة فمثلا يقول في أغنية “الاختيار”

“ابي درب. ما يوصلني لدارك.”

ونصادف في أغنية “انا ما أشير بالفرقا” تعاطيًا مختلفًا مع المفردتين؛ فهو هنا يختار للوصل “الطريق” ويختار للهجر “الدرب”:

تخير في طريقي الوصل.. وإلا درب هجراني

وهذا يتكرر في أغنية “حسايف” ولكن بتصور مختلف:

“اختفت في الطريق اللي معه .. كانت تجيه..

كيف دربٍ جمعه معها .. خذاه ..”.

لكنه يعود في أغنية” حبيبتي ردي سلامي” ويرتهن لمفردة” الدرب” ويرى بأنها أكثر احتضانا لحالة الحب الدافئة فيقول:

“ودربٍ كان يجمعنا على الإحساس.. “.

أما في أغنية” طفلة وطفل ” فأنه يأخذ الدرب الى صورة شعرية مختلفة تماما. حيث يمنح الدرب الكهولة. كهولة الذكريات:

“وبيتٍ صغير.. ودربٍ كهل.. ” ويمضي في هذه التوظيف للدرب ويجد فيه أيضا معنى للغربة في أغنية فاتر اللحظ فيقول: ” يا غريب الدرب.. وأشواقك سفر”.

إذا كانت المشاعر الوطنية المتأججة التي كتب بها في بداياته الشعرية الأغنية الوطنية العظيمة “سيوف العز” جعلته يختار مفردة الدرب ” ربنا واحد ودربنا واحد” فإنه في المقابل، يجدد رهانه على مفردة الطريق فيأخذها في حالة عاطفية كلاسيكية لأنه يعتقد بأن شعرية هذه المفردة تلائم هذه العرض العاطفي وهو يقول:

“طريقنا واحد.. امشيه.. معي.. أحباب.. كانك تبين.. أصحاب.. اللي تبين”.

بل أنه يؤكد على أن الطريق كمفردة هي الأنسب لهذا التوافق العاطفي بين المحب والمحبوب:

“قادر الله .. يالغضي ..قادر الله ..نلتقي فـ وسط الطريق ..”

وعندما تحضر لحظة الفراق فهو يرتد في قياس المسافة ويتراجع من المنتصف إلى البداية كما في أغنية “مرتني الدنيا”:

ما به جديد.. لا تاقف الدنيا.. على أول طريق

إذا كان في قصيدة ” قصت ظفايرها” يمنحنا هذا الالتباس بين الجهل بالمحبوبة وبين معرفته بالطريق حتى أنه يعد أحجار ذلك الطريق ” وأعد أنا حجار الطريق اللي يودي لبيتها”. فأنه في حالة أخرى ينحاز لأن يعزز التيه والجهل بثوابت تفاصيل حياته (البيت -الطريق) لكن هذه القطيعة مع الأشياء تتحول إلى صورة شعرية حميمية مثل: “كلّ ما في الدنيا أعرفه إلا بيتي والطريق”.

وعندما تتسع حالة التأمل لتجربة البدر سنجد أن هناك مفردة ثالثة تحضر كمنافس لمفردتي الطريق والدرب وهي مفردة الشارع. لكن هذه المفردة وبحسب تصوري يوظفها في الحالة المدنية ودوما تحضر في سياق ضجيج وصخب المدن. ويتجلى هذا المعنى في أغنية “المرايا”:

“اظهري من ليل كحلك ومن أساورك وحريرك.. افتحي الشباك مره.. شوفي الناس والشوارع”.

وفي أغنية “المسافر” نجده يرصد حالة المكان في حالة ما بعد الصخب والضجيج” ذبلت أنوار الشوارع.. وانطفئ ضيّ الحروف”. وفي قصيدة أخرى يستحضر الشارع في هذه الصورة السينمائية الماطرة:

“يا ماطر الليل.. لا تاقف بوسط السما .. لك هالشوارع .. انما تكفيك.. ساعة.. ساعتين..

بنشيب وحنّا واقفين.. تحت المظله” ولا يكتفي بهذه الصورة الشعرية لاستحضار مفردة الشوارع فيذهلنا في أغنية” علمتني أعقد صداقة بالنظر” بهذه الصورة الغارقة في الظلام ولكن وصلت إلى المتلقي بنورٍ ابداعي شفيف ” سيل الظلام.. يملى الشوارع ليل” وحتى في متاهة الضياع والغرق في عوالم الدهشة العاطفية نجده في أغنية “ما قلتلي أنك تحب” يوظف أيضا مفردة الشوارع:

” حبست في عروقي.. دفا صوتك.. سريت

درت الشوارع كلها.. فـ دنيا أبد .. ما ادلها”

وفي قصيدة” هم ” وهي إحدى القصائد التجريبية التي اقترب فيها من كتابة التفاصيل اليومية نجده أيضا يوظف مفردة الشوارع وترافقها مفردة الدروب وهي المرة الأولى التي يجمع بينهما:

“لبست الضي الشوارع.. والدروب والمباني.. شامة في خد الغروب” – ولأن الحياة المدنية عندما تحضر في قصيدته مشبعة بالتفاصيل الحياتية نجده هذه المرة يختار مفردة الشارع وليس الشوارع كما لاحظنا في الاستشهادات السابقة” أعبر الشارع معاي .. في الرصيف الثاني قهوة.. فيها أربع طاولات.. وحده اجلس فيها وحدي”. وهذا الاستحضار المدني لمفردة الشارع أيضا في قصيدته” ظل الطباشير” التي تذهب رصد صور من التفاصيل اليومية:

“ظل وطباشير إشارة.. تعقد الحاجب. نوقف طوابير الليل في الشارع” وذات الاستحضار لمفردة الشارع يتجدد في أغنية” ناي” والتي لها ذات الطابع في الاستشهادات السابقة:

ناي

في الشارع.. عتمة ونور..

زحمة.. وإشارات المرور.. “

ويعيد استحضار الشارع في حالة من الشرح والتوضيح لمعنى الحب:

“ألا يا طفلتي ما هو الهوى هالشارع المهجور

ولا هو ريحة غبار الوعد في أسفل ثيابك”

لكن في أغنية ” نجمة الفضة” نتوقف عند استخدام ذكي ودقيق لكل من مفردتي الشارع والدرب. فهو يقول في بداية النص:

أعرف الشارع اللي.. فـ اوله دارك.. واعرف إن القمر.. جارك ” لكن هذه الواقعية في توظيف مفردة الشارع يأتي بعدها سقف عال للصورة الشعرية؛ فهو اختار الشارع للحبيبة وعند سقوط النجوم فأنها تملأ دروب المدينة وهي الحالة التي يجب ان تكون أكثر اتساعا لأن تتوافق مع حزن الحبيبة الشاسع فيقول “اعرف ان النجوم.. اتطيح.. على دروب المدينة.. إلى صرتي حزينة”.

وفي هذا السياق نتوقف عند البيت الشهير والذي أصبح أيقونة عاطفية لكل من يعول على كرامات الصدف. وبراعة البدر أنه اختار الشوارع بكثرتها وتعددها لأن تؤدي دورا في أن تكون مسرحا للقاء الصدف ولكن في الشطر الثاني يستحضر مفردة “الشباك” حيث جعل الشباك وحيداً وكأنه يعني بأن كل الشوارع على كثرتها واتساعها قد لا تنتصر على نافذة واحدة مغلفة. وهي نافذة الحبيبة التي توصد نافذتها للجفاء أو لأسباب عاطفية أخرى.

متى الشوارع تجمع اثنين صدفه

لا صار شباك المواعيد مجفي

وأخيرا عندما نصل الى هذه الاستشهاد الأخير نفهم أن كل حضور هذه المفردات (الطريق-الدرب – الشارع) لا تعني دروبا وطرقا وشوارعا حقيقية بل إنها تعني حضورا مجازيا صنعه خيال البدر الشعري: إنها الطرق والدروب والشوارع التي أرقت مخيلته وكابد ابداعيا في استثمارها شعريا، حتى كتب لنا هذا الجمال فهو كان مثقلاً بالمعاني في دروب الشعر حيث يقول: “في دروبي رمل لامن جيت ساري”. ولهذا عندما كان يريد من أحد أن يدله على الطريق كان يريد طريقا لا يصل به إلى طريق محدد أو اتجاه محدد.. وهذا التصور الذي كان يتجدد في وجدانه وفي خياله هو الذي جعله يستمر خمسين عاما في طرق ودروب الشعر:

يا هيه .. وان كانك رفيق

قم دلني .. علي طريق ..

ماهو يوصلني لطريق ..

عن يمةٍ .. غير الجهات الأربعة

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.