يميزنا نحنُ العرب، والسعوديون خصوصًا باختلاف قبائلنا، لهجاتنا، بل حتى ملامحنا.. أننا جميعًا نتفق على قيم معينة كدستور غير مكتوب نعرفه ونميزه كباطن أيدينا. قد يعرفها البعض ويجهلها بعضٌ آخر، والغالبية تمارسه دون وعي، لأننا أشرقت شمسنا كما نراها وتربينا على محاكاتها.
بدأ الأمر كله في الساحة العظيمة التي تسمى مجلس أوسع مساحة يحملها العربي في منزله بعد "صدره". حيث يمدها قدر ما يستطيع، لأبعد من مدى نظره.. وقد قيل في كرم البدو أن "الضيف إذا أقبل أمير، وإذا جلس أسير وإذا ابتعد شاعر" أي: أن الضيف يُكرم ويحتفى به كالأمير منزلةً، يحتفون به ويحيطونه كالأسير من فرط الكرم وعندما يرحل فإنه شاعر يتغنى بكرمهم وحسن ضيافتهم.
وحتى المجلس عند البدو يحمل أدبًا غير منطوق، فأحد الآداب المتعارف عليها هو رش العطر وحرق العود لاستقبال الضيف ثم لتوديعه؛ إذ يُعرف أنه لا يجب المكوث بعدها، فالمثل الشائع يقول: «ما بعد العود قعود»، ويقول حافظ وهبه في كتابه «جزيرة العرب في القرن العشرين»: «إن اسم المرش الخاص بالعطر «قُمقُم»؛ وهي كلمة تركية أو فارسية، وتعني إشارة للضيف؛ أي قُم ولا تجلس». ولذلك يشعل المضيف البخور لاستقبال الضيف، ثم لا يشعله مرة أخرى أو رش العطر.. حتى يهم الضيف بالانصراف من قِبَل نفسه؛ وهي لغة غير مبرمة يفهمها الجميع، فإن أراد انصرافه أشعل البخور وتلازم معه رش العطر، فينصرف الجميع.
وأما في آداب الحوار فلا يجوز الحديث لأحد إلا في دوره، ولا يجلس الضيف بشكل عشوائي بل لكل قامة وعمر وهدف من الحضور منزلةً ومقعدًا مناسب.. فمثلًا من يذهب للاستماع فقط له أطراف المجلس، وتمتد السهرة في المجلس ما بين حديث وبحث في أمور القبيلة ومشاورة في قضاياها، ثم ينتقل الحديث إلى أخبار البادية وأخبار التجارة. حيث أن هناك ترتيب للمواضيع متعارف عليه.
ومن الآداب أن يعتذر المضيف عن القصور حتى مع عدم وجوده، حتى لا يقع الحرج في نفس الضيف. ومن الأعراف هي عدم تناول وجبتين من الطعام في أوقات الطعام المتعارف عليها، فمثلًا في حال تناول الضيف وجبة غداء عند فلان فيجب عليه ألا يأكل الغداء عند شخص آخر حتى لا يتهم الأول أنه لم يشبع ضيفه لأنها "عيب" وموضع نقد شديد. بالإضافة إلى أنه يجب أن يمتنع المضيف عن النعاس أو التعبير عن النوم بأي شكلٍ كان حتى لا يشعر الضيف بثقله ويرحل.
ويحمل العرب قيمًا وأدبًا غير مكتوبة ولا مدونة بل منقوشة في أذهانهم لتترك عاداتٍ وخصالًا كريمة تشابه أهلها.. نشارككم هذه العادات، آملين أن تترك فهمًا أعمق لتصرفات نراها لكن لا نستوعب جذورها العميقة:
القاعدة الأولى: القهوة خص خص، والشاهي قص قص أي أن تقديم القهوة اختيار وتقديم الشاي قص أي يبدأ من اليمين إلى الشمال من دون مراعاة أي معايير للمجلس. أما عن دستور صب القهوة فهو يلتزم أن نخص الأكبر سنًا بالفنجان الأول -في الجلسات الاعتيادية-، أما في الجلسات الخاصة يُصب الفنجان الأول لكبير القبيلة أو الأكبر وجاهة. وفي حال وجود ثلاثة شيوخ في المجلس فهو لزامٌ على الضيف أن يحضر ثلاثة "صبابين" يصبون القهوة في الوقت ذاته اجلالًا واحترامًا للثلاثة. أما في حال كان جميع الحضور من الوجهاء فإما أن يبدأ الصب من يمين المجلس حتى يساره أو يوضع أول فنجان بينهم ويقول "حشمتكم بينكم" حتى يتنازل أحد الحضور للآخر.
القاعدة الثانية: هز الفنجان أو الإيماء فيه وهي طريقة يعبر فيها الضيف عن اكتفاوه عوضًا عن قول"تكرم"، وإن لم يُهز الفنجان لا فلا يجلس القائم على الضيافة حتى لو وقف على اكرامه أيامًا بلياليها.
القاعدة الثالثة: صبة الحشمة وهي مقدار القهوة الذي يُظهر الترحيب للمضيف، ويجب ألا تزيد كمية القهوة المصبوبة في الفنجان عن ثلثه، كما يجب عدم ملء أكثر من نصف الفنجان، لأنه في حال زادت الكمية عن ذلك، يفهم الضيف أنه غير مُرحّب به وعليه أن يشرب قهوته ويرحل.
القاعدة الرابعة: دقة التنبيه وهي أن يُدق الفنجان بالدلة قبل أول فنجان لينتبه المضيف أن القهوة تستدعي انتباهه وحتى لا يضطر القائم على صب القهوة بقطع حديث أحدهم.
القاعدة الخامسة: ما تشناك وهي جملة تقال حين تقدم القهوة -على عكس المتعارف عليه- باليد اليسرى، وهي حالة نادرة جدًا ومن الأدب أن تُقدم باليمنى لكن في حالات قليلة قد لا يستطيع المضيف أن يقدمها باليمنى فيقول:"ما تشناك" أي لا تقلل من قدرك.. ويُرد عليه بـ:"يسارك يمينك" أي يدك اليسرى كاليمنى كناية عن الأدب والشيم.
القاعدة السادسة: دلالات الفناجين
القاعدة السابعة: قهوتك صايبة جرى في عادات تقديم القهوة أن لا يتم القول علنًا في حال وجود عيب في قهوة المضيف، وذلك لحساسية الأمر عند العرب ولاحترامهم لجهود المضيف في اكرامهم، ويمكن لفت انتباه المضيف للخلل دون أن يشعر أحد بالقول: "قهوتك صايبة"، وفي هذه الحالة على المضيف أن يغير قهوته فورًا، وذلك في حال وجد الضيف أحد عيوب القهوة التالية:
القاعدة الثامنة: حقك بالفاير مو الباير وهي جملة تقال للاعتذار من الضيف في حال فرغت القهوة من الدلّة، والسَريب هو طلوع الحثل بالفنجان، والحثل هو بقايا القرفة والهيل في الدلّة. أما الفاير فهي القهوة التي تفور، ويقال نصيبك فيها أي تستحق قهوة جديدة تليق بك، والباير هو الذي يبور أو يُترك فترة طويلة حتى يفقد خصائصه.
قد تبدوا هذه "القوانين" كثيرة في ظاهرها، لكنها ألف باء الأدب والقيم العظيمة من كرم وسخاء واحترام لكل ضيف يحل سواء صديقًا كان أم عدوًا.