«هناك حقيقة مؤسِفة، وهي أنّ موضوع الصحة النفسية وحشٌ من الصعب السيطرة عليه وترويضه» [1].
مدخل
يسعى هذا المقال لتسليط الضوء على الخطاب النفسيّ المعاصر، وأَعني به هنا؛ ما يصدِر من المختصِّين أطباء أو أخصائيين نفسيين في موضوع الصحة النفسية تحديدًا، سواءً كان مكتوبًا أو منطوقًا. وسأتطرّق لمضامين هذا الخطاب، أيّ بعض الموضوعات التي أعتقد أنّ من المهم إعادة التفكير فيها. إنّ موضوعات الخطاب المختارَة هنا هي وليدة ملاحظاتي الشخصية، ليس إلاّ. ولا يعني طرحها، أنّها الأهمّ، أو أنّ تصوّري وما أذكره من مآخذ بشأنها هو الفصل فيها. على العكس تمامًا؛ آملُ أن يُثير تناولها مزيدًا من النقاش -حولها وأيضًا حول غيرها من الموضوعات-، وأن يُضيء جوانب أخرى ذات صِلة أغفلتها هنا. ثمّ سأتناول مفهومين آخرين، أعتقد أنه يجدر أخذهما بالاعتبار عند الكتابة والحديث عن الصحة النفسية.
أمثلة لموضوعات هذا الخطاب
– التوعية بالصحة النفسية ليست بالضرورة مجدية أو مفيدة دائمًا
للتوعية بالصحة النفسية جاذبية كبرى؛ إذ غدَت ممارسة شائعة عالميًا وعربيًا ومحليًا. نجد تنامي الكثير من المبادرات والأيام المخصَّصة لذلك، بشكلٍ كبير مع توفر مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف نشر المعرفة النفسية، والتصدي للوصمة النفسية والصورة النمطية للاضطرابات النفسية، وتشجيع من يعاني على الحديث عن معاناته وطلب المساعدة. للوهلة الأولى، قد يكون من المستغرب إثارة الحديث عن هكذا جهود ومبادرات، قد لا يُختلف على أهميتها ونُبل مقاصدها. لكن، يبدو أنّ التوعية النفسية ليست بالسهولة التي نتخيّلها، بعبارةٍ أخرى قد نحتاج في الحقيقة إلى أن نُعيد التفكير مرارًا في تسليمنا بـ إيجابيتها المطلَقة.. ولأُفصِّل في المسألة قليلًا..
كيف نُوعي كمختصِّين بالصحة النفسية؟ فكّرتُ في هذا السؤال دائمًا، رغم بداهته. كيف نُبسط بشكلٍ غير مُخلّ وهادف المعلومات والمعارف المتعلّقة بالصحة النفسية؟ بالنسبة لي هذه ليست مسألة يسيرة. حتى بالنسبة للمختصِّين. ولعلَّ استسهال المسألة من قِبل البعض، باعتبارها مسألة لحشد معلوماتٍ تتعلّق بهذا الاضطراب أو بذاك؛ هو ما أدى -في بعض الأحيان- لظهور اعتراضاتٍ على محتواها. كما أنّه ومن الملاحظ أنّ أغلبها يفتقر إلى وضع معلومات الصحة النفسية في السياقات الملائمة لها [2].
نحن هنا نتعامل مع متلقِّين يوجد بينهم تفاوت؛ تفاوت في إدراكاتهم المتعلّقة بالصحة النفسية، والثقة في المختصّ، والظروف الاجتماعية والاقتصادية، وأيضًا في خبرات المعاناة النفسية الشخصية أو تلك الخاصّة بالمحيطين بهم، وأيضًا خبرات طلب وتلقّي خدمة الرعاية الصحية النفسية. أُفكر حتى في أنّ الكتابة العلمية حول العديد من الاضطرابات النفسية في الكتب العلمية الجامعية، قد تعرّضت ولا زالت للنقد والتعديل والمراجعة؛ لأخطاءٍ بحثية عِلمية، وتحيّزات، أو استخدام عبارات لا تحترم إنسانية وذات من يعاني منها. فما بالنا إذن بمحتوىً موجّه للمجتمع عامةً، والذي غالبًا لا يخضع لمراجعةٍ دقيقة؟
أمرٌ آخر هام، كثيرًا ما نجد عبارة تتكرّر في حملات وجهود التوعية النفسية، وهي أنّ «حلّ المسألة يكمن في الحديث، ألاّ يعاني الإنسان لوحده، وطلب المساعدة بدون تردد». تبدو هذه العبارات منطقية ومُبرَرَة. إلاّ أنّ -ومجددًا-، تبسيط المسألة بهذه الشكل يجانب الواقع، وقد يكون مؤلم لمَن لديه معاناة نفسية. قد تكون مفيدة للبعض، إلاّ أنها غير مناسبة، أو من الصعب الأخذ بها بالنسبة للبعض الآخر. يحضرني في هذا الصدد، ما ذكره الطبيب النفسي البريطاني سيمون ويسلي Simon Wessely، عام 2017: «أشعرُ بالإحباط والحزن في كل مرّة يكون لدينا أسبوع للتوعية بالصحة النفسية. لسنا بحاجةٍ لأن يكون الناس أكثر وعيًا؛ فنحن لا يمكننا التعامل مع مَن لديهم هذا الوعيّ في الأساس» [3]. يتحدث ويسلي هنا عن عجز المؤسسات الصحية البريطانية في تقديم الخدمات النفسية لطالبيها. عبّر عن قلقه إزاء التوعية وزيادة الوعيّ، دون أن يُقابل ذلك ازدياد عدد العاملين في خدمات الصحة النفسية، بجانب توفير ظروفٍ ودعمٍ أفضل. أعتقد أنّ ذلك ينطبق على دولٍ كثيرة، وليس مقصورًا على بريطانيا فحسب، حيث الوصول إلى الخدمات النفسية ليس متاحًا ويسيرًا دائمًا، إمّا -مثلًا- لارتفاع التكلفة المادية، أو لطول فترة الانتظار التي تصِل إلى عدة أشهر في المستشفيات الحكومية.
ثمّة مسألة أخرى، وهي أنّ الجانب الكبير للتوعية النفسية المقدَّمة لا يصوِّر اعتلالات الصحة النفسية بوصفها تقع على مُتصِّل spectrum، ما يتطلًب دقّةً وجهدًا أكبر في صياغة الرسالة التوعوية. الكثير من الحملات والجهود الصحية النفسية تصوِّر خبراتنا النفسية على أنّها إمّا صحية أو غير صحية، فيما تتجاهل الطيف الواسع الممتد بين قطبيّ الصحة النفسية والاعتلال النفسيّ؛ ما يتسبَّب في الأخطاء التي تقع من قَبيل إضفاء الطابع المرضيّ pathologizing على خبراتٍ نفسيةٍ طبيعيةٍ عابرة، أو إدراك المتلقّين بأنّ هكذا خبرات هي مَرَضية وتستدعي العلاج النفسيّ. وبالمقابل، نجد أنّ بعض الحملات تُعزِّز لأفكارٍ من قَبيل العناية بالذات self-care، والتحدث مع موثوق، وممارسة التأمّل والاسترخاء.. إلخ، التي غالبًا ما تنطوي على استهانةٍ بمَن لديهم معاناةٍ نفسية شديدة، أو وليدة ظروفٍ اجتماعية قهرية.
ممّا يثير الاهتمام أيضًا، الافتراض الذي طرحته ورقة عِلمية حديثة، صدرت في أبريل من هذا العام الجاري 2023 [4]. تفترض هذه الورقة أنّ جهود التوعية بالصحة النفسية تساهم -في واقع الأمر- في زيادة مشاكل الصحة النفسية. استند هذا الافتراض على حُججٍ منطقية، ابتدأت بأنّ جهود التوعية قد تؤدي إلى المبالغة في تفسير الأعراض النفسية؛ فقد يبدأ بعض الأفراد في إدراك الضيق النفسي البسيط والانفعالات السلبية كمشاكل نفسية تحتاج إلى تشخيصٍ وعلاج. من قَبيل المفارقة هنا، أنّ هذا قد يؤدي إلى خَلق أو تفاقم مشكلات الصحة النفسية. كما أنّ جهود وحملات التوعية بالصحة النفسية عادةً ما تُصوِّر المعاناة النفسية على أنها شجاعة جديرة بالإعجاب. هذا -من غير قصد- قد يُمجِّد ويُجمِّل مشكلات الصحة النفسية، أو يُضفي عليها طابعًا رومانسيًا، ما يعزِّز بدوره الإسهام في ظاهرة المبالغة في تفسير الأعراض النفسية. علاوةً على ذلك، وصف الخبرات النفسية الطبيعية بأنّها مشكلات أو اضطرابات نفسية، يُمكن أن يخلِق نبوءات ذاتية متحقِّقة Self-fulfilling prophecy؛ حيث يغيّر الفرد من اعتقاداته أو سلوكياته لكي تتناسب مع تشخيصٍ نفسيٍّ ما، كما أنّ المحيطين به يبدؤون في معاملته على نحوٍ مختلف بما ينسجم مع الوصف والتشخيص النفسي المعنيّ؛ هذا قد يؤدي إلى أن يخبُر هذا الفرد اعتلالاتٍ نفسية بالفعل، جرّاء ذلك. لم تُختبر هذه الفرضية بحثيًا بعد، لكنّي أعتقد أنّها جديرة بالاهتمام والبحث.
إنّ ما ذكرته، لا يعني -بطبيعة الحال- وجوب التوقف عن التوعية بالصحة النفسية، أو غياب الفوائد الهامة للتوعية بالصحة النفسية، إنّما أردتُ تسليط الضوء على بعض الجوانب المهمة، التي -غالبًا- مغيّبة فيما يخصّ هذه الجهود، وترجمتها على أرض الواقع. تكمن المشكلة في افتراض أنّ التوعية بالصحة النفسية مفيدة دائمًا، بغضّ النظر عن فحواها، ونهجها.
– تبنّي نموذج تفسيريّ أحادي للصحة النفسية
الصحة النفسية ظاهرة معقدة، ولا يمكن اختزالها أو تفسيرها بعاملٍ واحد. لقد اُنتقدت النظريات النفسية الخاصَّة باعتلالات الصحة النفسية الاختزالية، التي غلّبت مثلًا التفسيرات التي تركز على الفرد وحده كمصدر للاعتلال، وتجاهلت دور العوامل الاجتماعية والثقافية، أو حتى انحازت لتفسيراتٍ بيولوجية؛ وأسفرت هكذا انتقادات عن ظهور توجّهاتٍ تصحيحية وتكاملية لفهم وتفسير الصحة النفسية بكافة أطيافها. بيد أنّ ذلك لم يمنع للأسف أن تظهر مجددًا خطابات تعزّز وتنادي صراحةً بفهم وتفسير الاعتلالات النفسية من منظورٍ أحادي، والتي تبدو لي أحيانًا ردة فعل عنيفة ومتطرّفة على التفسير البيولوجيّ والطبيّ.
يتجلَّى ذلك مثلًا في التقرير الصادر عن الجمعية النفسية البريطانية/فرع علم النفس العيادي عام 2020، بعنوانه الرئيس: (فهم الاكتئاب) [5]. يبدأ هذا التقرير بالقول إنّ من الأفضل التفكير في الاكتئاب باعتباره تجربة أو مجموعة تجارب، وليس مرضًا، مما يثير حيرتي هنا حقيقةً، أنّ المرض أيًّا كان نوعه هو تجربة أيضًا. فما الذي يَحول بين التعامل مع الاكتئاب كتجربة مؤلمة، وكمرض أو اضطراب في ذات الوقت؟ يمضي التقرير بعد ذلك في انتقاد العلاج بالصدمات الكهربائية والعلاج الدوائي.
يُفهم من التقرير إجمالًا بأنّ الإكتئاب ما هو إلاّ عبارة عن ردود فعلٍ طبيعية ومفهومة لظروفٍ حياتية معينة، وما يجعلنا لا ندركه كذلك في الوقت الحاضر، هو تشخيص الطب النفسيّ له كمرض. سأكتفي بما أوردتُ هنا؛ إذ لا تتوفر مساحة كافية لاستعراض كافّة محتويات التقرير. تمنيتُ لو ذكر معدوّ هذا التقرير أنّ هذا هو منظورهم للاكتئاب، ولو أُحيل القارىء مثلًا -ولو باختصار- إلى نماذج تفسيرية أخرى ومراجع لها. يعكس هذا التقرير نظرة أحادية ويقينية، أجدها مُغالى فيها لحالةٍ معقدة، لا زلنا نجهل الكثير منها. إذا كان الإكتئاب تجربة كما يُفضِّل التقرير أنّ نفهمه، فـ لماذا هُمِّشت مثلًا تجارب الأفراد الذين استفادوا من العلاج الدوائي، ووجدوه -دون مبالغة- منقذًا لحياتهم؟ وماذا عن تجارب الأفراد الذين يعانون من اكتئابٍ شديدٍ مزمن، لنتخيّل أن يُقال لهم إنّ الاكتئاب مجرد تجربة؟
يقول جوناثان سادوسكي Jonathan Sadowsky، في كتابه المهم (إمبراطورية الاكتئاب: تاريخ جديد The Empire of Depression: A New History): «إنّ بيولوجية الاكتئاب لم تُعرَف بالكامل، وقد يظلّ كثير منها غامضًا على الدوام. إلاّ أنّ فكرة الاكتئاب النفسيّ بالكامل أعتقد أنَّها غير مُقنعة. وبالمثل كذلك النظرة للاكتئاب على أنّه بيولوجيّ بالكامل؛ إنّ هذه الثنائية بذاتها هي المشكلة» [6]. نستطيع ببساطةٍ أن نُبرز ونشدِّد على دور العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في فهم الاعتلالات النفسية، وفي ذات الوقت لا نُلغي دور وفعالية الأدوية في بعض الحالات على الأقلّ. نستطيع أن ننتقد كما نشاء تاريخ الطب النفسيّ وبعض ممارساته -وهي جديرة بالنقد-، دون أن نتجاهل دوره في تحسين جودة حياة الكثير من الأفراد.
– التشخيص النفسيّ للاضطرابات النفسية
يأتي موضوع التشخيص النفسيّ كأحد المواضيع الشائكة والمثيرة للجدل في الوقت الحاضر. فمن ناحية، نجد أنّ عددًا لا بأس به من الأخصائيين النفسيين وحتى بعض الأطباء النفسيين ينتقدون التشخيص النفسيّ وجدواه، ويُبالغ البعض في نقده -أو إن شئنا الدّقة في هجومه-؛ إذ يصف التشخيص بأنّه ضار وقمعي بالمطلَق. يعتقد الكثير من منتقديّ التشخيص النفسيّ أنّ كل ما يقوم به الطب النفسيّ -أو خدمات الصحة النفسية التي تستعين بالتشخيص النفسيّ- هو مجرد قولبة لشكوى الإنسان ووضعه في فئةٍ معينة.
أعتقد أنّ المشكلة هنا تكمن في التناول السطحي والمختزل لموضوعٍ معقد، كـ تشخيص الاضطرابات النفسية. إذ يشير أستاذ الطب النفسي جون سادلر John Sadler [7]، إلى أنّ التشخيص يستخدم كاسم (مدلول (denotation وفعل (عملية أو إجراء process or procedure)، في الممارسات العياديّة اليومية، فالتشخيص كمدلول تصنيفيّ هو جزء من القصة، وربما الجزء البسيط منها؛ لذا أعتقد أنّ اختزال كهذا للتشخيص بجانب شيطنته وشيطنة مُمارسيه -من قِبل البعض-، وتجاهل سياقه، يمثِّل إشكالية كبيرة.
لعلَّ التساؤل المباشر والبسيط هنا، هو: هل التشخيص مفيدٌ أو ضارّ؟ حسنًا، قد يكون الأمرين معًا. فالتشخيص في نهاية المطاف أحد أدوات المُمارسة العياديّة، ويعتمد الأمر على طريقة الاستخدام، والتعامل مع نواتج التشخيص. هذا -على الأقلّ- ما تشير إليه المراجعة البحثية الصادرة عام 2018 -[8]، والتي تقصَّت أبحاثًا تناولت خبرات متلقيّ خدمة الرعاية النفسية، والقائمين على رعاية الأشخاص الذين لديهم تشخيص باضطرابٍ نفسيّ، ومقدميّ خدمة الرعاية النفسية. كشفت هذه الدراسة أنّ التشخيص بالنسبة للبعض كان مفيدًا للغاية [9]، وكانت المشكلة بالنسبة إليهم بأنّه لم يُعط مبكرًا بما فيه الكفاية، في حين كان بالنسبة للبعض الآخر قمعيًا بدرجةٍ كبيرة. فضلًا عن ذلك، شدَّدت هذه المراجعة على جوهرية السياق الذي يتمّ فيه تقديم التشخيص؛ فإذا ما قُدِّم التشخيص بتأنٍ ودقة، مع مناقشته، وتزويد الشخص بمعلوماتٍ واضحة، فمن الأرجح أن تكون خبرة التشخيص إيجابية إجمالًا. لذا من الصعب غالبًا اتخاذ موقفٍ مطلَق -مؤيد أو معارض بالمطلَق- للتشخيص النفسيّ بحدّ ذاته، وأخذ صاحب هكذا موقف بجديّة.
هذا لا يجعلنا بالطبع نتجاهل أنّ الأدلة التشخيصية القائمة ليست مثالية، ومتفاوتة في دقّتها. كما أنّ من المهم نقد التوسّع في التشخيص النفسيّ (وإن كانت هذه مسألة جدلية في تحديد ما يُعد توسّع من عدمه، إلا أنّ هذا المقال لن يتناولها)، والممارسات السلبية والخاطئة المتعلّقة باستخدام التشخيص.
بين أصحاب هذا الخطاب ومتلقِّيه
– الهرمونطيقيا المزدوجة Double hermeneutic
يحتاج المختصّون والباحثون في الصحة النفسية إلى الانتباه والتفكير في كيفية استخدام الناس للمفاهيم ذات العلاقة بالصحة النفسية، وكيف يمكن أنّ تُغيّر هذه المفاهيم من إدراك ووعيّ الناس بها. أحد المناهج التي تُعنى بهذه المسألة هو ما يُسمَّى بـ«الهرمونطيقيا المزدوجة» –وقد تُترجم إلى التأويل المزدوج-، ويُقصد بها نظريات وممارسات التفسير، حيث ينطوي التفسير على فهمٍ يكمن تبريره. أنتوني جيدينز Anthony Giddens عالِم الاجتماع [10]، هو من قدَّم هذا المفهوم في الأوساط الأكاديمية. يذكر جيدينز بأنّ لدى المختصِّين في العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء، فهم وخطاب مشترك حول الظواهر الطبيعية المدروسة، ولا تساورهم الشكوك حول أنّ الخطاب والحديث عن هذه الظواهر من شأنه أن يغيّر من إدراكها وفهمها. ولا يحتاجون إلى تفسير معرِفتهم لعيّنات أبحاثهم (غير البشرية)؛ لأنَّها غير عاقلة، ولن تستوعب و تتفاعل مع هذه المعرفة، أو تُغيّر من طبيعتها. إلاّ أن الموقف مغاير كليًا لما عليه الحال في العلوم الإنسانية، عندما يكون المرصود كائنًا بشريًّا يستخدم هذا المفهوم ويتفاعل معه. حيث يتمّ تداول المفاهيم والنظريات التي وضعها العلماء لتفسير الظواهر السلوكية بين الأفراد، ويستوعبونها ويفسِّرونها تفسيرات قد لا تتطابق أحيانًا مع تفسيراتها العلمية الأساسية. وبذلك، لم يعد الفصل الدقيق مُمكنًا بين العارف knower أو الذات والمعروف known أو الظاهرة.
لنتناول مثلًا ورقةً بحثية [11]، عُنيت بكيفية فهم وتفسير التصنيفات النفسية لـ صِغار السِّن (15 عامًا)، بالتحديد الاكتئاب والقلق. فقد كشفت ومن خلال 51 مقابلة أُجريت مع عيّنة منهم، بأنّهم يرون مثل هذه التصنيفات، تعكس «فرديّة جوفاء». ولعلَّ المثير هنا، إضفاؤهم معنىً آخر لها [12]؛ بتحويلهم لها من تصنيفاتٍ تشخيصية diagnostic categories، إلى تصنيفاتٍ ثقافية cultural categories. فنجد أنّهم شدَّدوا على أهمية الدور الذي تلعبه العوامل الثقافية والاجتماعية في فهم الصحة النفسية لصِغار السِّن. علاوةً على ذلك، فصلوا هذه التصنيفات عن أساساتها العياديّة، وبدلًا من اعتبارها مشاكل في أذهان الأفراد، نقلوا مجالها إلى السياق البنيويّ الاجتماعي للإدارة المدرسية، وعلاقاتهم الاجتماعية، ومعايير المجتمع ومُثُلهم العُليا، وجماعات الأقران.
من ثمّ، تَبع ذلك الكثير من التداعيات المعقدة بخصوص الصحة النفسية، من حيث مفاهيمها، وفلسفتها، ونظرياتها.. وما الذي يتعيّن على المختصِّين التوعية به في المجتمع بصفةٍ عامة.
– التأثير المتبادل المتكرِّر Looping effects
مفهومٌ آخر جدير بأنّ يضعه المختصِّون، عند الحديث عن مفاهيم الصحة النفسية، وما يرتبط بها من تشخيصاتٍ للاعتلال النفسيّ. فقد وضَّح فيلسوف العلم إيان هاكنج (Ian Hacking) [13]، في سلسلةٍ من الأوراق البحثية بالغة الأثر، بأنّ المفاهيم في العلوم الاجتماعية والسلوكية ترفض أن تبقى كما هي دون تغيير. إذ نجد أنّ حتى المفاهيم الراسخة تتغيّر، بظهور مفاهيم جديدة، وتشهد مجموعة التصوّرات والتصنيفات التي بواسطتها يُسمّي/يفهم الناس خبراتهم، تحوّلات مستمرة.
فيما يخصّ الصحة النفسية [14]، يُلقي مفهوم التأثير المتبادل المتكرِّر الضوء على عملية التفاعل بين التصنيفات وأنواع الأفراد المستهدفين، التي من المفترض أنّ تشترك في السِّمات والسلوك. بتعبيرٍ آخرٍ، تُثير الممارسات التصنيفية ردود فعل لدى الأفراد، فعندما مثلًا يُشخص الإنسان سواءً من قِبل مختصّ أو من قِبل نفسه؛ فإنّه يشرَع في تشكيل سلوكه وخبراته وفهمه لذاته وفقًا لهذا التشخيص.
في الواقع، هذه إحدى الفرضيات التي استندت عليها الورقة البحثية -الواردة سابقًا-، التي تفترض أنّ جهود التوعية النفسية ربما ساهمت في زيادة مشاكل الصحة النفسية. لا ننسى هنا أنّ تواجد الجزء الكبير من هذه الجهود في مواقع التواصل الاجتماعي؛ ييسِّر علينا تصوّر كيف يمكن أن يحدث التأثير المتبادل المتكرِّر. حيث يجعل الإنسان من تشخيصٍ ما منطلقًا لفِهمه لذاته وإدراكه لسلوكياته، بل إنّ الأمر يتجاوز ذلك، ويصبح مُشكلًا أكثر؛ حينما يغدو هويةً بالنسبة له [15].
إجمالاً، أعتقد أنّ هذين المفهومين من شأنهما، أو من المأمول أن يجعلا المختصِّين يفكرون مليًّا في فحوى الخطاب المطروح، وكيفية استقبال المتلقّي له، ونواتج هذا الاستقبال. فعندما تنطلق وتُتداول المفاهيم والتصنيفات ذات الصِّلة بالصحة لن تبقى كما هي، كما ستُؤثِّر في إدراك الأفراد لذواتهم؛ ما يُسهم في جعل صياغة الخطاب ومتابعة نواتجه مُهمة أصعب، تتطلّب الكثير من التأنّي والمراجعة المستمرة.
ماذا بعد؟
ما سبق كلّه مجرد تأملات، افتراضات، لم تُختبر بحثيًا بعد في عالمنا العربيّ؛ لذا، أعتقد أنَّنا بحاجةٍ ماسَّة إلى أبحاثٍ تتقصَّى وتراجع الخطاب النفسيّ المعاصر لدينا. في حين نجد عدد غير قليل لهكذا أبحاث في المجتمعات الغربية، هي للأسف -في حدود اطلاعيّ- شبه غائبة عن العالم العربي، بما في ذلك المجتمع السعودي. ومثلها الأبحاث التي تقيس تأثير جهود التوعية بالصحة النفسية على أفراد المجتمع.
خاتمة
الخطاب المتعلِّق بالصحة النفسية، له إغراؤه، وجاذبيته، وسُلطته، وتأثيره، ونواتجه غير المتوقَّعة. كل هذا -في ظنّي- يستحقّ منَّا الوقوف قبل هكذا خطاب -أثناءه (إعداده وصياغته)، وبعده (تقصَّي نواتجه وتأثيره)- مليًّا وطويلًا.
المراجـع
Foulkes, Lucy (2022, February). Mental health awareness – time to re-focus. The [1]
Psychologist. https://www.bps.org.uk/psychologist/mental-health-awareness-time-re-focus
O’Connor, C. (2017). Embodiment and the construction of social knowledge: Towards an.
[2] integration of embodiment and social representations theory. Journal for the Theory of
Social Behaviour, 47(1), 2-24
Arie, S. (2017, September 21). Simon Wessely: “Every time we have a mental health [3]
awareness week my spirits sink”. BMJ. doi:10.1136/bmj.j4305
Foulkes, L., & Andrews, J. L. (2023). Are mental health awareness efforts contributing to [4]
the rise in reported mental health problems? A call to test the prevalence inflation hypothesis. New Ideas in Psychology, 69.
British Psychological Society. (2020). Understanding depression: Why adults experience [5] depression and what can help. https://doi.org/10.53841/bpsrep.2020.rep133
Sadowsky, J. (2020). The Empire of Depression: A New History. Polity [6]
Sadler, J. Z. (2005). Values and psychiatric diagnosis. Oxford [7]
Perkins, A., Ridler, J., Browes, D., Peryer, G., Notley, C., & Hackmann, C. (2018). [8]
Experiencing mental health diagnosis: a systematic review of service user, clinician, and
carer perspectives across clinical settings. The Lancet Psychiatry, 5(9), 747-764.
[9] في هذا الصدد تحضرني أغنية، بعنوان: A Diagnosis، من مسلسل Crazy Ex-Girlfriend، الموسم الثالث. هذه الأغنية تجعلني أفكّر في أنّ التشخيص قد يكون قيدًا حينًا، وخلاَصًا حينًا آخر. https://youtu.be/uic_3vlI5BE
Giddens, A., & Giddens, A. (1982). Hermeneutics and social theory. Profiles and [10]
Critiques in social theory, 1-17.
Lindholm, S. K., & Wickström, A. (2020). ‘Looping effects’ related to young people’s. [11]
mental health: How young people transform the meaning of psychiatric concepts. Global
studies of childhood, 10(1), 26-38.
[12] بالرغم من أنّ الباحثين فسَّروا هذه النتائج من خلال (مفهوم Looping effects التأثير المتبادل المتكرِّر)، إلّا أنّي أعتقد أنّها أيضًا، مثال جلّي لمفهوم الهرمنوطيقا المزدوجة.
Hacking, I. (1995) The looping effect of human kinds. In: D. Sperber, D. Premack, & [13]
A.J. Premack (Eds) Causal Cognition: A Multidisciplinary Debate. Clarendon,
Hacking, I. (1998). Mad Travelers: Reflections on the Reality of Transient Mental Disease. [14]
University Press of Virginia.
Ellemers, N., & Barreto, M. (2006). Social identity and self-presentation at work: How [15]
attempts to hide a stigmatised identity affect emotional well-being, social inclusion and performance. Netherlands Journal of Psychology, 62(1), 51–57.