مُتَعلِّقٌ | مصطفى الكليني – زوي ر. دونالدسون

تستغرق 5 دقائق للقراءة
مُتَعلِّقٌ | مصطفى الكليني – زوي ر. دونالدسون

ترجمة: فادي حنَّا – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري

مِن المَهدِ إلى اللَّحدِ، تُلطّفُ صور التعلُّقِ حياتَنا وتُزعزِعُ أركانَها؛ إنها مصدر سعادتنا وشقائنا، وجوهر ما نكون.

ماذا نعرِف عن التعلُّق الاجتماعي والطبيعة البشرية؟

مشهدٌ مألوف: في حديقةٍ عامة، حيث يتنزّه الأزواج الشباب، ويلعب أصحاب الكلاب لعبة الالتقاط، وبينما يتبادل الأبوَان أطراف الحديث ويركض الأطفال من حولهم، تُفتتن ماري، الطفلة الصغيرة، بشيء مدهش جديد على عالَمها، قد يكون فراشة الربيع، أو ربما طفل آخر يستشيط غضبًا على نحوٍ مُثير للإعجاب؛ وتدرك في النهاية، حينما تخرج من تركيزها الشديد، أنّ والديها لم يعودا في مجال بصرها، وإذا فضولها ودهشتها يتحوّلان إلى قلقٍ وخوف، بينما تحبس دموعها وتبدأ البحث عن والديها، وما تلبث أن تعثر على والدها، الذي يمسك بها؛ ليتبدد خوفها في الحال، ويعود عالَمها مُكتملًا وآمنًا مرة أخرى.

منذ لحظة الميلاد ونحن مجبولون على السعي إلى التعلُّق بالآخرين، وطوال حياتنا، العلاقات التي تتضمّن التعلُّق تكون بمثابة المورد الذي نستمد منه الأمان العاطفي، والبهجة، والرِّفقة، فيما نستمد منها أيضًا الألم والأسى في أحيانٍ أخرى. إنّ العلاقات الإنسانية مُتعددة الأوجه بصورةٍ مُذهلة إذا ما قُورنت بعلاقات الحيوانات الأخرى. بيدَ أن ما يقبع في صميم علاقاتنا، على الرغم من ذلك، هو تطوُّر لظاهرةٍ واسعة وعميقة تضرب بجذورها بعيدًا على امتداد طيف الأنواع، وبينما نتلمّس طريقنا في الحياة –من أطوار الطفولة، ثمّ المراهقة، إلى سِن الرشد، وحتى الفقد– فإن للتعلُّق سطوةً قويةً على حيواتنا، كما أنه يتبدّل لمواكبة حاجاتنا المُتغيرة. وفي حين تخبرنا جذور هذه الظاهرة الكثير عن وجودنا، فإنها تخبرنا بالقدر نفسه عن التساؤلات المُلغزة التي بقيت دون إجابة في التطوُّر، وعلم النفس، وعلم الأعصاب.. وغيرها.

في كتابه “الفوز بالسعادة” (١٩٣٠)، كتب الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل: «هؤلاء الذين يجابهون الحياة بشعور الأمان هُم أسعد بكثير من أولئك الذين يواجهونها بشعور عدم الأمان… فالطفل الذي يشغف به والداه يتقبّل عاطفتهم بوصفها قانونًا طبيعيًّا، أمّا الطفل الذي سُحبت منه عاطفة الوالدين، لأيّ سبب من الأسباب، قد يصبح جبانًا وغير مُغامر، تُساوره المخاوف ومشاعر الإحباط الذاتي، ولا يصلح لمواجهة العالَم بروح الاستكشاف المرح».

ما وصفه راسل لن يُوصف علميًّا إلا بعد ذلك في ثلاثينات القرن العشرين، حين لاحظ عالِم الحيوان النمساوي كونراد لورنتس (Konrad Lorenz)، أنّ البطّ والأوز مفطورون على التعلُّق بأول شيء يرونه مُتحركًا في حياتهم، وسوف يبدون علامات الضّيق إذا ابتعدوا عن ذلك الشيء. وجد لورنتس أن ذلك الدافع الغريزي قويّ جدًا إلى درجة أن التعلُّق ينشأ بقطع النظر عن موضوعه، سواء كان موضوعه أُم الطيور، أو إطار درَّاجة، أو لورنتس نفسه.

وبالرغم من أنّ الأمر أكثر تعقيدًا بالنسبة لأطفال البشر، فإن عالِم النفس الإنجليزي جون بولبي (John Bowlby)، طوّر -في الخمسينيات- ذلك المفهوم ليشملنا؛ حيث لاحظ أن الأطفال الذين انفصلوا عن ذويهم أثناء الغارات الجويَّة في الحرب العالمية الثانية، يميلون إلى الصِياح محتجين بينما يريدون اللحاق بهم، ثمّ يستسلمون بعد ذلك إلى يأسٍ حَذِر، ثمّ يصيرون مُنعزلين. وقد توصَّل بولبي من ملاحظاته إلى مبدأه القائل بأن الأطفال منذ يوم ولادتهم يبدأون في تطوير نماذج عقلية فريدة للكيفية التي يدرك بها مقدموّ الرعاية الأساسيين (caregivers) حاجاتهم والاستجابة لها. إن مُقدميّ الرعاية أولئك، في الواقع، هُم بمثابة القاعدة التي ننطلق منها بغية استكشاف العالَم، وهُم بذلك يكوّنون أوائل صور التعلُّق العديدة التي نخبرها في حياتنا. يقول بولبي: «إنَّنا جميعًا نكون الأسعد عندما تُنظّم حياتنا باعتبارها سلسلة من النزهات، الطويلة أو القصيرة، التي تبدأ من القاعدة الآمنة التي يمنحها لنا أولئك الذين نتعلّق بهم».

وبالكاد يمكن التقليل من أهمية تلك القاعدة الآمنة. تخيّلْ مرتاديّ الحديقة العامة أثناء الحرب العالمية الثانية. ثمَّة طفل يلعب في تلك الحديقة يدعى كاي، قد نزح إلى العيش في الريف الهادئ بدون والديه، وثمَّة طفلة أخرى تدعى ماري، حيث بقيت في لندن، التي تعاني القصف وأهوال الحرب، ولكن برفقة والديها. إن أولئك الذين ظلَّوا في لندن مع أبائهم، على الرّغم من خطر القصف الداهم، كانوا في النهاية في حالةٍ نفسية أفضل، ربما كان ذلك مستغربًا لدى البعض، لأن والدا كاي قد حافظا على سلامة طفلهما أيضًا.

لكن لِمَ يندفع نوعنا، أو أيّ نوع آخر، غريزيًّا لتكوين التعلُّق؟ لقد كتب عالِم الوراثة الأمريكي الأوكراني ثيودوسيوس دوبجانسكي (Theodosius Dobzhansky)، عام ١٩٧٣: «لا شيء في علم الأحياء يكون له معنى، ما لم يُنظر إليه من منظور التطوُّر». أثناء الطفولة، سلوكيات التعلُّق، كصياح الطفل، من المرجح أنها تطورتْ لإبقاء مُقدميّ الرعاية يقظين وعلى مقربةٍ من أطفالهم لتلبية حاجيات البقاء؛ إذ يضمن ذلك وصولهم إلى سِن الرشد، ومن ثمّ يمرِّرون جيناتهم الوراثية إلى الجيل الجديد. إن البقاء وتمرير المادة الوراثية هُما -في الأساس- العُملة الرَّائجة للتطوُّر.

على الرغم من أنّ رابطة التعلُّق التي تتكوّن بين الوالدين وأطفالهم هي رابطة عالمية، إلاّ أن لها أنماطًا عدّة. في عام ١٩٧٨، وصفتْ عالِمة النفس الأمريكية الكندية ماري أينسورث (Mary Ainsworth)، كيفية تحليل تلك الأنماط المختلفة من التعلُّق. وقد طوَّرت إجراء الموقف الغريب (Strange Situation Procedure)، حيث لاحظت الأطفال الذين يتركهم الوالدان في حجرة مع شخص غريب، ثمّ يعودون إليهم في وقتٍ لاحق. وعن طريق ملاحظة التفاعل بين الرضيع، ومقدم الرعاية، والغريب، توصلت إلى ربط مختلف أنماط التعلُّق باختلافاتٍ ترجع إلى مدى حساسية ويقظة الأمهات فيما يتعلّق بتلبية حاجيات أطفالهم العاطفية. إذ كانت ماري، الطفلة التي كانت تلاحق فراشات الحديقة، والدتها حساسة باستمرار، فإنها كانت ستسفيد من عودة والدتها إليها للتحكُّم في شعورها بالضيق قبل أن تعود إلى الاستكشاف بدون صعوبة كبيرة. على العكس من ذلك، ربما كان لكاي أم حساسة بصورةٍ غير مستمرة، ما يؤدي إلى تنمية نمط من التعلُّق لديه يتصّف بالقلق والحيرة؛ أيّ أنه سيُظهر مزيجًا مضطربًا من نوبات الغضب والتشبُّث بمقدم الرعاية [الأم] عندما تعود. مع ذلك، فإن طفلًا آخر، بيير، ربّما كانت والدته غير حساسة وباردة، ما ينتهي به إلى أن ينمّي نمطًا اجتنابيًّا من التعلُّق، يتضح في ميله إلى الانزواء عندما يلتقيان، بطريقةٍ تبدو وكأنه يعتمد على ذاته في السيطرة على ما يصيبه من حزن.

لِمَ طوّرنا قدرة على تكوين أنماط مختلفة من التعلُّق؟ لِمَ ينزوي الطفل الرضيع حين يتواجد مع مُقدِّم رعاية غير مُستجيب؟ بوسعنا أن نتخيل أن مُقدميّ الرعاية هؤلاء، لا سيّما في الماضي التطوريّ، ربّما كانوا غير مستجيبين لانشغالهم بمحاولة النجاة في بيئةٍ خطرة أو مقفرة. إن نمط التعلُّق المنفرد، أو المعتمد على الذات، ربما كان السبيل الأفضل لمحاولة الإبقاء على مُقدِّم الرعاية ذاك على مقربةٍ بدون تشتيته، والمخاطرة بالتعرّض للهجر. بتعبيرٍ آخر، فحتى أنماط التعلُّق غير الآمن يحتمل أنها تطوَّرت كطرائق للتكيّف كانت تلاءم سياقها لمساعدة الأطفال على النجاة في العالَم.

وتظلُّ التبصّرات التي اكتسبناها من ملاحظة استجابات الرُّضع في إجراء الموقف الغريب أساسية اليوم، ومن البيّن أن أنماط التعلُّق -في مرحلة الطفولة وما تلاها- وثيقة الصِلة بنوع حساسيّة مُقدِّم الرعاية المُبكر. على الرغم من أننا لا نتعلّق تعلُّقًا لا رجعة فيه بأوّل الأجسام المتحركة التي نشهدها، فإن أنماط التعلُّق البشريّ تعكس في النهاية الطبيعة مُتعددة الأوجه لخبراتنا. تظهر الناس طيفًا واسعًا لكل أنواع السلوكيّات، بما فيها مجموعة من صور التعلُّق الاجتماعي. ولا يمكن أن تفسّر نظرية التعلُّق وحدها ذلك الطيف بأكمله، ولا ينبغي علينا السماح لها بذلك، كحال نظريات التحليل النفسي التي سبقتها.

إنّ صور التعلُّق الآمنة القائمة بوسعها أن تكون بمثابة العمود الفقري لاستيعاب الضغوطات التي تجتاح العلاقات الجديدة والتخفيف من وطأتها.

وكلَّما تقدم بنا العُمر، فإننا نجوب مبتعدين عن القاعدة الآمنة المتمثّلة في والدينا، وندخل في علاقاتٍ أعمق مع أقراننا. في عام ١٩٧٣، شبَّه بولبي اتصال السُّلوك التعلُّقيّ ذاك بنظام سِكة حديد حيث يصير المسافر الذي يبارح مركز مدينته بمرور الوقت أكثر التزامًا بمسَاره. أمّا الكيفية التي نوجّه بها ذلك المسَار فهي تعكس خبراتنا التعلُّقية. على سبيل المثال، إذا كان كاي قد طوَّر نمطًا قلقًا من التعلُّق فإنه ربما يميل إلى المطالبة بقدرٍ زائد من الحميمية، وسيكون شديد الحساسية لأمارات التجاوب أو عدمها. على الصعيد الآخر، فإن بيير الذي طوَّر نمطًا اجتنابيًّا (avoidant) من التعلُّق سيميل إلى تقليص الحميمية، أو الاعتماد المتبادل في علاقاته الجديدة. فيما ماري، التي تتمتع بنمطٍ آمن من التعلُّق، ربما تتمتع بقدرةٍ أعظم على التجاهل، أو مسامحة عدم التوافر المؤقت.

على الرغم من أنّ بولبي وأينسورث لم يقبلوا العلاقات الرومانتيكية أو الوديَّة باعتبارها امتدادات للسلوك التعلُّقي، فإن آخرين قد أشاروا إلى أنه مثلما تلعب شخصيات التعلُّق في طور الطفولة دورًا في تقديم الراحة والتخفيف من حدّة الشقاء، هكذا يفعل أيضًا الأقران والشُركاء الرومانسيين. إن تلك القدرة على توزيع المشقة وتخفيفها ذات أهمية خاصّة في مرحلة المراهقة، وسط اضطراب الصداقات الجديدة، والانفصال العاطفيّ الأوّل، والتغيُّرات الهرمونية، وغيرها. إذن، ربّما لن يدهشك أن المراهقين أمثال ماري الذين حظوا بأنماطٍ آمنة من التعلُّق يميلون إلى تطوير مهارات في التأقلم أكثر إيجابية بخلاف أقرانهم أصحاب التعلُّق غير الآمن، الذين يكونون أكثر عرضة لمجموعة من عوائق التكيُّف، بما فيها أعراض الاكتئاب. ربما يرجع ذلك جزئيًّا إلى أنّ صور التعلُّق القائمة الآمنة يمكن أن تكون بمثابة الدعامة الأساسية للضغوطات التي تجتاح العلاقات الجديدة والتخفيف من وطأتها. إنّ أولئك الخارجين من عالَم صور التعلُّق غير الآمن لا يحظون بالرفاهية نفسها.

خلاصة القول، إنّ تعلُّقات الحياة المُبكرة تكون أساسًا تدريبيًّا للروابط التي ندخلها في سِن الرشد. وبقطع النظر عن نمط التعلُّق، يميل جميعنا إلى الانجذاب إلى إغراء الوقوع في الحبّ، وتكوين العلاقات الرومانسية التي تتميّز بالترابط الزوجيّ. في ظل هذه الروابط فإن أنماط التعلُّق البالغة لدى كلّ من كاي، وبيير، وماري في علاقاتهم، على التوالي، من المرجح أن تشبه ما كانوا يخبرونه في حياتهم المُبكرة؛ أيّ التطلُّب، والاجتناب، وإظهار الثقة. لكن أنماط التعلُّق، كمعظم السلوكيات المعقدة، ليست ثابتة؛ إذ بوسع الأفراد التحوّل إلى أقاصٍ مختلفة من الطيف أو الابتعاد عنها، لا سيَّما حين يواجهون خبرات مثل: خيانة غير مُتوقعة، أو شريك يولي اهتمامًا غير عاديّ. على الرغم من معرفتنا الضئيلة نسبيًّا بالتغيُّر المُتعمّد في أنماط التعلُّق، إلا أننا نعرِف أنّه ممكن الحدوث، وأنّ العلاج، ومعرفة الذات قد يحفزان حدوث ذلك.

تشكّل الروابط الزوجيَّة لُبَّ الزواج الأحاديّ الاجتماعي، وهو نظام تزاوج نشأ باستقلالٍ على امتداد المملكة الحيوانيَّة، ونجده في أقل من ١٠% من الثدييات. (يتضمن الزواج الأحاديّ الاجتماعي ترتيبات معيشية بين ذكور وإناث بالغين، في مقابل الزواج الأحاديّ الوراثي، حيث يتزاوج البالغون بعضهم ببعض مدى الحياة). أمَّا الزواج الأحاديّ الاجتماعي فقد ظهر متأخرًا خصوصًا في سُلالة الرئيسيات، وقد ظلّ نظام التزاوج المُفضّل لدينا نحن البشر. ليس ثمَّة جواب واحد لسؤال لِمَ انبجس الزواج الأحاديّ الاجتماعي مرارًا وتكرارًا على امتداد مسَار التطوُّر، لكن لا بد أن الاقتران، في جميع الأحوال، قد قدَّم فائدة تطوريَّة. ربما كانت هذه الفائدة -بالنسبة لأسلافنا- قد ساعدتهم على إنتاج المزيد من النَّسل، لكن الأهم من ذلك، ربما قد ساعدتهم على زيادة قدرة ذلك النَّسل على تمرير المادة الوراثية إلى الجيل التالي.

في بيئةٍ خطرة وقاحلة، ربما تمكّن جنسنا، المنتمي إلى الثدييات -حيث يلزم وجود الأم من أجل الرعاية-، من الازدهار بواسطة الترابط الزوجيّ؛ إن استمرار وجود الأبّ ربما كان ضروريًّا للحفاظ على حياة النَّسل الذين، بخلاف ذلك، قد يقتلهم ذكر آخر بهدف إنهاء فترة توقف خصوبة الإناث، التي غالبًا ما تُصاحب الرضاعة الطبيعية. وتشير حُجج أخرى إلى ندرة التزاوج، وهو ما يعني أنّ من الأفضل للذكر أن يبقى وينتظر فرصة التزاوج المُتتابع مع الأنثى نفسها بدلًا من تركها أملًا في العثور على شريكة آخر. وربما اتصلت الضغوطات الانتقائية، في بعض الحالات، بتجنُّب مسبِّبات الأمراض أكثر من البيئة الفيزيائية المحيطة؛ ذلك أنّ الاقتصار على عددٍ محدود من الشُركاء للتزاوج يُعد طريقة ناجعة في تجنُّب انتقال الأمراض المنقولة بالاتصال الجنسيّ.

بقطع النظر عن الضغوطات المعينة التي أدَّت إلى الترابط الزوجيّ، فقد تبيّن أن أسلافنا أشبَاه البشر قد تزاوجوا لتربية الأطفال معًا في كنف القبائل، التي تعتمد على الصيد والجمع، حيث تساوى الآباء والأمهات في اتخاذ القرارات المتعلقة بالسكن؛ إنّ وجود اثنين من متلقيّ الرعاية قد أتاح لأوّل مرة وجود الرعاية المتزامنة لعدّة أطفالٍ مُعالين، وهو أمر كان يستحيل تقريبًا، في خلال تاريخنا التطوريّ، أن تقوم به أمّ بمفردها. لم يكن الأبّ بالضرورة مصدر هذه الرعاية الإضافية؛ فأحد الحُجج المضادة تقول بأن بقاء الجدَّات على قيد الحياة بعد سنوات النشاط الإنجابيّ -وهي صفة لم نشهدها عند غيرنا من الرئيسيات-، قد انتخب لكونه يساعد على تقديم مثل هذه الرعاية.

قد تساعد نظرية التعلُّق كل العائلات عن طريق بثِّ سياسةٍ اجتماعية.

على أيّ حال، وفَّر الدعم المطوّل -بالموارد- للأطفال: الزمنَ والطاقةَ اللّازمين؛ لكي تكبر أدمغتنا وتصبح أكثر تعقيدًا؛ ربما كانت العلاقة بين الروابط الاجتماعية وحجم الدماغ علاقة ثنائية الاتجاه؛ فقد أدَّى بزوغ أدمغة أكثر تعقيدًا أيضًا إلى بزوغ علاقات اجتماعية أكثر تعقيدًا. ونتج عن ذلك أننا كنوعٍ يتمتع بمرونةٍ هائلة، قادر على تشييد تنظيمات اجتماعية متنوعة -كتعدد الأزواج، وتعدد الزوجات، وتعدد علاقات الحبّ، والزواج الأحاديّ المتكرر.. وغيرها-، بناءً على عوامل تتضمن الثقافة، والدين، وتوزيع الموارد في المجتمع. وعلى الرغم من ذلك، فإن الحقيقة الإنسانية الكليَّة -حتى في المجتمعات التي لا تتبنَّى الزواج الأحاديّ الخالص-، هي أننا جميعًا نعتمد على الروابط؛ فلسنا نعرف أيّ ثقافة مسجَّلة حيث يكون البشر بها كائنات منفردة، ينشئون أولادهم في عزلة.

على الرغم من أنه ليس بوسعنا الإشارة إلى أسبابٍ تطوريَّة عالمية لأنماطٍ محددة من التعلُّق، فإننا نعرف أنه لا بد من تفسير تنوّعها واستمراريتها في سياق العوامل الاجتماعية-الاقتصادية الأرحب. بعبارةٍ أخرى، إن السبب الذي دفع بيير لتطوير نمط تعلُّق اجتنابيّ، بينما دفع ماري إلى تطوير نمط آمن هو سبب يتخطَّى العوامل الكامنة في والديهما بصورةٍ خالصة. على الرغم من أن الكثير من الآباء يجهد في سبيل تقديم رعاية ممتازة حتى في ظلّ التحديات الخارجة عن إرادتهم، إلا أن ثمَّة قيود حقيقية للغاية تربط الوقائع الاجتماعية والاقتصادية. وتسهم هذه القيود -التي تتضمن في الولايات المتحدة الأمريكية: عدم وجود إجازة أبويَّة مدفوعة- في تفاقم معركة إتاحة الوقت والطاقة اللازمين لتلبية الحساسية العاطفية، ومن ثمّ تأمين التعلُّق الآمن. إنّ الآباء بالمثل، ليسوا صفحات بِيض، ذلك أن آباء بيير يحتمل أن يكونوا أنفسهم قد نشأوا على تعلُّقٍ غير آمن، أو ربما أسوأ، قد تعرّضوا لمعاملةٍ سيئة أو صدمة؛ يسلّط ذلك الضوء على القول المأثور القائل إنّ الأمر «يحتاج إلى قرية» لتربية الأطفال؛ قد تساعد نظرية التعلُّق كل العائلات عن طريق بثّ سياسةٍ اجتماعية. لقد ساعدت أفكار بولبي، منذ عقود مضت، في استحداث سياسة نعتبرها مسلّمًا بها اليوم: أن يوضع الآباء إلى جوار أطفالهم في المستشفيات. كما أن السياسة الحديثة المتعلِّقة بالتعليم المُبكر، ورعاية الأطفال، والمساعدة الاجتماعية يمكن أن تستفيد كذلك من منظورات نظرية التعلُّق.

مع ذلك، فإن الأنظمة التي نفكر بها حول التعلُّق محدودة بصورةٍ لافتة من جهة سِعتها على التطبيق في الثقافات المختلفة عن تلك التي يشير إليها عالِم الأحياء التطوريّ الأمريكي جوزيف هنريش (Joseph Henrich)، بالثقافات الغربية، الناطقة بالإنجليزية، والصناعية، والثريَّة، والديمقراطية؛ يصدق ذلك في عَصرٍ تتخذ فيه الروابط الزوجيَّة أشكالًا متعددة، وتبتعد بصورةٍ تقدميَّة عن مؤسسة الزواج. إن تفضيلات الترابط الزوجيّ يجب أن تبقى منفصلة عن الحكم الأخلاقي، وعلينا أن نحترز من وصم التغيُّرات السلوكية الطبيعية. يبرز ذلك بالأخصّ في ضوء تاريخ الممارسات التي أضرَّت بالأطفال المتنوعين عصبيًّا (neurodivergent)، على امتداد الطيف السلوكيّ، بتنفيذ إجراءات مثل الاتصال البصريّ القسريّ الإلزاميّ،  تحت مسمَّى تقديم علاج «قائم على التعلُّق» (attachment-based)، حتى إذا استطاع العِلم في أحد الأيام أن يقدّم طريقة تتيح إمكانية تغيير طيف السلوك التعلُّقي بطريقةٍ علاجية، فإن مسألة التطبيب ستظلّ قائمة، لذا ما معنى أن يعتبر المرء نفسه، أو شخصًا آخر صاحب إعاقة.

ومع ذلك، يُضفي علم الأعصاب بشأن التعلُّق طبقة أخرى تُثري فهمنا للظاهرة. تأمّلْ بيير الشاب الذي يستمد راحته من بطانيته المُفضّلة، أو ماري الفتاة الجامعية التي تستمد راحتها من الجري يوميًّا، أو كاي البالغ الذي يستمد راحته من التأمل والعبادة؛ يقدّم موضوع التعلُّق، في هذه السيناريوهات كلها، شعورًا بالأمان والمكافأة؛ من المحتمل أن تكون سلوكيات عدّة من التعلُّق، بما فيها التعلُّق الاجتماعي، وحتى التعلُّق غير التكيُّفيّ مع تعاطي المخدرات يطوّع آليات المكافأة والتحفيز المتداخلين في المخّ.

بوسعنا التفكير في آليات المخّ تلك بوصفها شبكة من الدوائر التي تحمل تيارات مختلفة من المعلومات، التي تُسرّعها أو تبطئها، على نحوٍ انتقائيّ، مجموعةٌ من المركبات الكيميائية، وتشكِّلها التجربة. تأمل السيروتونين، ذلك المركب الكيميائيّ، الذي بدأت الكائنات وحيدة الخليَّة في تكوينه قبل أكثر من مليار سنة. إن ذلك المركب قد سهَّل، من بين أشياء أخرى، آلية اللّدغ عند الشعاب المرجانية، والسباحة عند قنافذ البحر، والسلوك العاطفي عند البشر. على الرغم من أننا مازلنا عاجزين عن تحديد مدى الآثار التي يتولاها ذلك الجزيء القديم، فإن السيروتونين يدخل في تكوين الشعور بالمكافأة. تشكّل الاضطرابات في نظام السيروتونين في المرحلة المُبكرة من النموّ الاختلافات الفردية المتعلِّقة بالقلق، والسلوك الاجتماعي. ولهذا فإن السيروتونين يظلّ الهدف بالنسبة لبعض الأساليب العلاجية الأكثر استعمالًا في علاج الاكتئاب والقلق. وتلعب المواد الكيميائية الأخرى، مثل: الدوبامين والأفيونيات الذاتية المنشأ دورًا حاسمًا في تحفيز المكافأة. وخلاصة القول، إن العديد من الدورات والمواد الكيميائية، خلال فترة حياة المرء، قد تؤدي وظائف مُماثلة على امتداد مجموعةٍ واسعة من صور التعلُّق.

مع ذلك، ثمَّة علم عصبيّ يكمن في أساس التعلُّق الاجتماعي خصوصًا. في نهاية الخمسينات، حيث وُجد أنّ الجزيء القديم، الأوكسيتوسين، هو المنظّم الرئيس لسلوك الأم وفسيولوجيّتها، عن طريق تحفيز المخاض وإفراز الحليب أثناء مرحلة الرضاعة. غير أن هذه التأثيرات الفسيولوجية ما كانت لتكون ذات فائدة لولا أنّ الأوكسيتوسين يحفز كذلك رغبة قويَّة لدى الأم في رعاية صِغارها.

وقد دفع دور الأوكسيتوسين في الارتباط الأموميّ عالِمَي البيولوجيا العصبية الأمريكيين سي سو كارتر (C Sue Carter) وتوماس إنسل، إلى البحث عمَّا إذا كان الجزيء نفسه يكمن كذلك وراء صور التعلُّق الأخرى. وقد لجأوا، لاختبار ذلك، في نوعٍ من القوارض الصغيرة التي تستوطن الأراضي العشبية الوسطى في أمريكا الشمالية، تسمَّى بـ “فئران البراري”. حيث تشكّل فئران البراري -مثل البشر وعلى العكس من فئران التجارب التي دُرست على نحوٍ أوسع- روابط زوجيَّة تقوم مدى الحياة، إذ تتشارك في جحر، وتشارك في تنشئة نسلها. في عام ١٩٩٢، اكتشف كل من كارتر وإنسل وزملائهم أن بإمكانهم منع تكوين تلك الروابط بواسطة منع إشارات الأوكسيتوسين، أو بإمكانهم حثّ هذه الحيوانات على تكوين رابطة إذا قاموا بحقنها بالأوكسيتوسين. وقد أثبتوا، بمساعدة جيمس وينسلو (James Winslow)، أن مادة الفازوبريسين، ابنة عمّ الأوكسيتوسين الناشئ من المادة الوراثية نفسها، وتختلف عن الأوكسيتوسين في موقعين كيميائيين فقط، ذو أهمية مماثلة في عملية الترابط الزوجيّ ولكن لدى الذكور فحسب. برغم أن الأوكسيتوسين والفازوبريسين يُعدّلان التعلُّق لدى البالغين، إلا أنهما لا يفعلان ذلك في الفراغ وإنما بالتنسيق مع أنظمة المخّ الأخرى، التي تجتمع كلها في ممارسة آثارها على الخلايا المفردة أو الخلايا العصبية.

إننا نعلم أن سلوك التعلُّق ينبثق من الكيفية التي يؤثّر بها بحر المواد الكيميائية ذاك على الخلايا العصبية في المخّ، وهو بحر لا تلبث أمواجه أن تتشكّل بواسطة خليطٍ من العوامل الوراثية، والخبرات، والمصادفة. بيدَ أن العلم الحديث قد بدأت للتَوّ في معرفة كيف يحدث كل ذلك، وكيف تحدثه مناطق متفرقة من المخّ، من أعصاب الهيبوثالاموس (hypothalamus)، وهي منطقة مُتعددة الجوانب تركّز على غريزة البقاء، في قشرة الفصّ الجبهي (prefrontal cortex)، المسؤولة عن إجراء حسابات ذات مستوى أعلى، مثل المنزلة الاجتماعية. وفي عملنا، كنَّا ندأب على دراسة منطقة النواة المُتكِئة (nucleus accumbens)، وهي المنطقة التي تضبط التحفيز، وتقود السلوك الموجّه نحو الهدف. وقد وجدنا أن الخلايا العصبية في النواة المُتكِئة عند فئران البراري تشفّر تمثُّلًا (representation) لرفقائها، يتضح أنه يستمر في النموّ كلَّما تعمَّقت الروابط الزوجيَّة بمرور الزمن؛ ما زلنا لا نعرف مدى قابلية هذه السيرورات في تعميمها على حال الخبرة الإنسانية. على أيّ حال، فإن ما نعرف هو أن مثل تلك الأنظمة المعقدة، التي يعزّزها الأوكسيتوسين والفازوبريسين، تترجم الفروقات بين بيير، وماري، وكاي إلى تركيبهم البيولوجيّ؛ ما يشكّل سلوكياتهم الاجتماعية القائمة. ولا يزال العلم بعيدًا عن فكّ شفرة النسيج البيولوجيّ للتعلُّق الإنساني، وكيفية حدوثه. كما قال بولبي نفسه: «ثمَّة هنا أرض بِكر غير مُستكشفة».

في الحديقة نفسها حيث لعب كلّ من ماري وبيير وكاي عندما كانوا أطفالًا، قد يكون من الممكن ثمَّة مقعد تذكاريّ يشهد على ما يعد ربما المظهر الأخير للتعلُّق: الفَقْد. فَقْدُ الأَحِبَّةِ –الآباء، والشُركاء، والأشقاء، والأصدقاء -هو أحد أفجع الأحداث الصادمة التي نعانيها في حياتنا. في مذكراتها “عام التفكير السِّحري” (٢٠٠٥) (The Year of Magical Thinking)، وصفت الكاتبة جوان ديديون (Joan Didion)، عملية الحزن على الفقيد بأنها: «تسلسل غير منقطع للحظاتٍ نُعاني فيها خبرة اللَّامعنى ذاته».

لطالما كان وجود الحزن، من وِجهة نظرٍ تطوريَّة، لغزًا محيّرًا؛ لِمَ طوّرنا هذه القدرة على الشعور بألمٍ شديد يمكن أن يجعلنا عاجزين عن العودة إلى حياتنا السابقة، بلا قدرة على استعادة مرونتنا العقلية، على حدّ تعبير تشارلز داروين؟ يجيب بولبي على ذلك بالقول: “إنّ الحزن لم يُنتخب لذاته، إنما هو نتيجة ثانويَّة للتعلُّق بشكلٍ عام”. بعبارةٍ أخرى، إن تعلُّقنا يظهر ليس فقط بوصفه شعورًا بالمكافأة نستمدّه من وجودنا حول أحبّائنا، وإنما أيضًا المشاعر السلبية التي نخبرها حينما ننفصل عنهم. وقد لاحظ بولبي أن الاستجابة للفقد توازي مراحل الاحتجاج واليأس والانفصال عن مُقدِّم الرعاية في مرحلة الطفولة. وفي حال الفقد، فإن تلك المشاعر السلبية لا يمكن إخمادها، من خلال إعادة الاجتماع بالفقيد، لذا فإن الفاقد عليه بدلًا من ذلك التأقلم والتكيُّف.

في رواية «الغريب» (١٩٤٢) لألبير كامو، يُحاكم رجل يُدعى “مورسو” بتهمة القتل. في القضية الموجّهة ضده، أخبر المدعيّ العام هيئة المحلَّفين بأن مورسو لم يحزن حتى عندما ماتت أمّه؛ مشيرًا إلى ذلك باعتباره دليلًا إضافيًّا للإدانة. وهذه حُجة مقنعة نظرًا لأن الحزن خبرة إنسانية عالمية. بالرغم من ذلك، فإننا نعلم الآن أنه مثلما يكون التعلُّق طيفًا، فإن خبرة الحزن كذلك. يخبر معظم الناس مشاعر الحزن الشديد يتبعه حزن «متكامل»، حيث يبدأون يشعرون بالرضا تجاه الحياة مرة أخرى. بالنسبة للكثيرين، يتضمن الحزن المتكامل إعادة صياغة للعلاقة بدلًا من وضع نهاية لها. يصف الفاقدون ذلك أحيانًا بالانتقال من ذكرياتٍ مُفجعة إلى ذكرياتٍ مُرَّة تتعلّق بأحبابهم المفقودين. بالرغم من ذلك، فإن بيير وماري وكاي من المرجّح أن يمرّ كل منهم بهذه السيرورات بطرائق تعكس جزئيًّا أنماط تعلّقهم، ما يؤثر في نهاية المطاف على الكيفية التي يتقبّلون بها قضاء الفقد في حيواتهم. رأى بولبي أن نزوع بيير نحو أن يكون شديد الحساسية لردود الأفعال من أشخاص التعلُّق يمكن ترجمته إلى فرط نشاطٍ مزمن إذا ما تعرَّض إلى الفقد؛ ما يؤدي إلى حنينٍ مزمن. على العكس من ذلك، فإن نمط تعلُّق كاي الاجتنابيّ يمكن ترجمته إلى نزوعٍ نحو أن يفصل أو يبعد ذاته عن أفكار الفقد؛ ما يقود إلى الإخفاق في استدخال الفقد وقبول قضائه. على الرغم من أن هذه النظرية أبسط من أن تقبض على التعقيدات التي تكتنف سؤال لماذا يحزن كل منّا بالطريقة التي يحزن بها، فإن ثمَّة، مع ذلك، ترابطات ذات معنى قائمة بين نمط التعلُّق الاجتنابيّ والنتائج الأفقر في الحزن.

ربما تعكس تلك الفروقات الفرديَّة في كيفية معاناتنا للحزن أنّ واحدًا من كل ١٠ إلى ٢٠ شخصًا يعانون حزنًا يستمر دون توقف؛ ما يعكس توقفًا في عملية التعافي الطبيعية. إن ذلك النوع من الحزن، وهو ما يُعرَف طبيًّا باسم: “اضطراب الحزن المرضيّ أو المعقد”، يمكن أن يستمر في الظهور بعد أكثر من عامٍ من الشعور بشدة الألم نفسه يومًا بعد يوم، والعجز نفسه في إعادة الانخراط مع الأصدقاء والهوايات التي كانت تجلب شعور الرضا فيما سبق. على الرغم من أنّ الكثيرين يخطون في هذه التجربة بمفردهم، فإن ثمَّة آخرين غالبًا ما يطلبون يَد العون.

غالبًا ما تكون العلاجات التي نقدّمها لمساعدتهم مجدية، ولكن يعوقها، بالرغم من ذلك، فهمنا المحدود للأُسس النفسية والكيماوية-العصبية للفقد. كما أننا نعلم بالمثل القليل عن حول ما يحدث عندما حينما يخبر بيير أو ماري انقضاء صور التعلُّق عبر الرفض في سِن المراهقة، أو الطلاق في مرحلة البلوغ؛ هل تشبه هذه السيرورات تلك الخاصة بالحزن؟ إن ذلك النوع من التساؤلات سيصبح أكثر إلحاحًا بمرور الزمن، لا سيَّما في ضوء حقيقة أنّ الملايين حول العالم يواجهون أو سيواجهون فقدان أحبّائهم بسبب جائحة فيروس “كوفيد-١٩”. 

بينما تتخلّل صورَ تعلُّقنا أقصى درجات لَم الشمل الفَرِح، والفقد المؤلم، فإن أفضل توصيف لفحوى التعلُّق، لمعظم حيواتنا، يقع في مكانٍ ما بين هذين القطبين. الواقع أنه في ضروب التعلُّق الاجتماعي كافَّة، ثمَّة تيارات من الشعور بالرضا والسُّخط يمكن أن ترجع إلى منابع متنوعة، من تصرفات الشُّركاء وتخاذلهم، إلى مسألة التوافق، والشعور بالقنوط الذي لا يمكن تفسيره.

تحثُّنا الفلسفة الرواقيَّة على إدراك حقيقة أننا نقترض أحبّاءنا، ولا يمكننا تملُّكهم. 

تقول إحدى وِجهات النظر التي كانت مصدرًا للإلهام على مدار قرونٍ طويلة، إنّ ضروبًا معينة من التعلُّق يمكن أن تؤدي نفسها إلى الألم والمعاناة؛ حيث تنصح الفلسفة الرواقية بأن راحة البال تأتي من عيش الحياة بطريقةٍ نُقلّل بها مدى تأثُّرنا بالأحداث الخارجة عن إرادتنا -بما فيها أحداث العالم الاجتماعي، بل حتى في الحبّ-، بواسطة الاعتراف بأننا نقترض أحبّاءنا ولا يمكن تملُّكهم. وتحثّ البوذية كذلك على اللّاتعلق، لا بذريعة الانسحاب من تلك العلاقات، إنما كدعوة للانخراط بها مع الاعتراف بعدم دوام أولئك الذين ندخل في علاقاتٍ معهم، تمامًا كما نعرف عدم دوام ذواتنا. إنّ التصور البوذيّ عن اللّاتعلُّق لا يشبه تصوّر بولبي عن التعلُّق الآمن إلا قليلًا، ولكنه قد درس بمفرده، مع وجود أدلة تُشير إلى ارتباط المستويات العليا من اللّاتعلُّق بنتائج بين شخصية (interpersonal) أكثر إيجابية. يتمثّل أحد تفسيرات ذلك في أنّ الذات لا يُنظر إليها بوصفها منعزلة عن الجميع، وما عداها من كل شيء آخر. 

ثمَّة شَد وجذب لا ينتهي، إذ تحاول علومنا أن تستخلص تعقيد العالَم وترده إلى المبادئ الأولى؛ لكن يستحيل على النظريات العلمية أن تُعبّر حتى ولو عن جزءٍ بسيط من الشعور بالفقد، أو اجتماع الشمل، مع  أعزائنا، إننا نعتقد بحقّ أن صور التعلُّق تلك تخصنا، ولا يمكن أن تُرد إلى مجموعةٍ من المشاهدات العلمية. بالرغم من ذلك، ثمَّة في العِلم ما يمكن أن نفيد منه، ألا وهو دعوة لتقدير عدم قدرتنا على وصف صور تعلُّقنا، مع علمنا بأنها قد تألّفت من سيروراتٍ تطوَّرت أساليبها عبر مليارات السنين، وهي تنبض بالحياة داخل كل منَّا. 

وفيما قد يُصيبنا الاشمئزاز من أنّ شخصًا ما كـ “مورسو”، أمضى حياة تخلو من التعلُّق الاجتماعي، كان مِن الملائم أن نشعر بالشفقة على حياةٍ لم تعرِف تعلُّقًا جديرًا بأن تحزن عليه.. وأن نقدِّر ما لدينا أكثر.

الهوامش 

1- مصطفى الكليني، حاصل على دكتوراة في الطب، ومتدرِّب في جامعة كولورادو.

2- زوي ر. دونالدسون، أستاذ مساعد في علم النفس وعلم الأعصاب وعلم الأحياء الجزيئي والخلوي والنَمَائِي في جامعة كولورادو بولدر.

المصدر 

(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).

تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.

الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.