الفن من الصمت إلى التمرد | جاسم الضامن

تستغرق 8 دقائق للقراءة
الفن من الصمت إلى التمرد | جاسم الضامن

تحرير: ندى حمد


الصمت في الفن الحديث

يفيض موضوعُ الصمت في التراث العربي بذكرِ فضيلته وقيمته الأخلاقية المفضلة على اللسان، وحكمته التي يبلغ فيها بلاغة المعنى العميق فيما لا يمكن للغة أن تدركه، فقد خصص له ابن أبي الدنيا بابًا أسماه باب حفظ اللسان وفضل الصمت في كتابه (الصمت وآداب اللسان). فقد جمع فيه أقوالًا وأحاديثَ في محاسن الصمت، وذم شرور اللسان، التي جاءت في سياق أخلاقي على أنه باعث للنميمة، والكذب، والغيبة، والمِراء، وأنه -اللسان- سببُ هلاك الإنسان ودخوله جهنم. كما -أيضًا- خصص الجاحظ له بابًا خاصًا لبيان فضل الصمت في كتابه (البيان والتبيين) فذكر فيه أقاويلَ وشعرًا في ذم فضول الكلام ومدح الصمت. وقد جاء فيه بأكثر ما شيع في فضل الصمت: «لو كان الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب».1 وفي موضع آخر ذكر فيه ما قيل: «وكان أعرابي يجالس الشعبي فيطيل الصمت، فسئل عن طول صمته فقال: «أسمع فأعلم، وأسكت فأسلم»».2

وكان لمواضع الصمت عند الجاحظ تعدد في مقاصدها، فمنها الأخلاقي المحض ومنها ما يكون فيها الصمت أكثر بلاغة من الكلام كذكره قول الشاعر أبي العتاهية:3

والصمتُ أجمَلُ بالفتى         من مَنطقٍ في غيرِ حِينِه

كلُّ امرئٍ في نفسِــــه               أعلى وأشرَفُ من قَرينِه

أما في الشعر المعاصر فقد انهلت فيه حكمةُ الصمت ضمن سياقها الروحي، وبعدها المتصوف المتجلي لهداية الذات نحو غموض هذا الكون كما يقول محمود درويش: 4

أُصغي إلى الصمت. هل ثمة صمت؟ لو
نسينا اسمه، وأَرهفنا السمع إلى ما
فيه، لسمعنا أَصوات الأرواح الهائمة
في الفضاء، والصرخات التي اهتدت إلى
الكهوف الأولى 

لماذا كل هذا التوق للصمت؟ هل انتهت اللغة؟

يذكر جادامر: «إنّ أعظم إنجازات الأدباء العظام تعد هي نفسها موسومة بطابع الصمت التراجيدي إزاء ما لا يقال».5 أما فيلسوف اللغة لودفيغ فيتغنشتاين فكان يدعو للصمت في قوله: «يجب أن نصمت عما لا يمكن قوله»6، غير أنه كان مناصرًا للمعنى التام في اللغة في كتابه (تحقيقات فلسفية)، فهو يرى من جهة أخرى بأن الأشكال المنطقية موجودة في الألعاب اللغوية؛ تلك اللعبة التراكمية للغة التي تضفي معنى للمحتوى، فالمحتوى ذاته كما يراه لا يمكن أن يكون معنى دون قواعد التوافق بين اللغة والمحتوى، وبالتالي لن نستطيع أن نفهم القيمة الوظيفية للمعنى إلا في اعتبار ما يحدده المعنى ذاته تجاه المحتوى، فالقيمة الوظيفية للقصد هو ما يحدده المقصد ذاته في وصفه: «إلغ عنصر المقصد وستسقط بذلك كل وظيفتها».7

حدد فيتغنشتاين الخط الفاصل بين التفكير واللا تفكير كمنطقة لتحصيل المعنى من عدمه من خلال مرور عملية التفكير باللغة فتصبح اللغة الوسيط الذي لا بديل له في إدراك الوجود والتعبير عنه ووصفه. فالمعنى يكون في التفكير وما لا يمكن التفكير فيه يكون اللا معنى، أي أن اللغة تتضمن تراكيب لغوية لا نهائية تتجاوز اللا معنى وهذا التجاوز ما يعرف بـ”الهراء”.8

فما هو اللا معنى إذن؟ هل هو ما لا يخبر عن شيء؟ أو ما لا يشير إلى شيء؟

من حيث فهمنا لفلسفة اللغة عند فيتغنشتاين فإنها تحقق حقيقتها ضمن حدودها الكونية، فعدم التطابق مع تلك الحدود في سياق المعنى هو ما لا يمكن التفكير فيه، أي أنه يقع في نطاق اللغة اللا نهائية من اللا معنى، فإن ما سيقال حينها مجرد هراء. فهو يرى: «بأن القضية يجب أن تشير إلى ما تقوله».9 والقضية هنا صورةٌ للواقع، فإما أنها تطابق الواقع أو لا تطابقه، وذلك يعني أن اللغة هنا محصورة في نظامها اللغوي التي تسمح بأن تنفذ عبر ألاعيب اللغة لتحقق المعنى ضمن نظامها المحدد، أي أنها لا تحقق معنًى أبعد من حدود نظامها المتكرر والثابت: «حيث يوجد معنى ينبغي أن يوجد نظام ترتيب مثالي».10

إذا كانت اللغة هي الطريق إلى المعرفة باعتبارها وسيلة لفهم تكوين المعنى في الخطاب. فما الصمت إذن؟ أليس الصمت جزءًا من المعرفة؟ إذ إنّ فيتغنشتاين يرى ألّا سبيل لفهم فلسفة التفكير والمعرفة دون اللغة فيقول: «كل شيء يحدث داخل في اللغة».11 إذن ما المعرفة التي يدعيها الصمت؟

ومن جهة أخرى يرى -فيتغنشتاين- أيضًا بأنّ الصورة لا ترقى إلى اللغة المنطوقة، لذلك يمكن للغة أن تتجاوز حدود اللا معنى بينما لا يمكن للصورة أن تفعل ذلك: «إن لغة الكلام تبيح تركيبات الألفاظ التي لا معنى لها، لكن لغة التصور لا تبيح التصورات التي لا معنى لها».12 أي أن التصور والصورة مرتبطة حتمًا بالمعنى، إذ أنها لا يمكن أن تكون غير الحقيقة التي تدعيها لذاتها. ومن هنا فإننا ينبغي الدخول إلى باب التصور والصورة التي أشغلت فيلسوف الفن الحديث بول كلي في تشكيل ما لا يمكن قوله من خلال كتابه (نظرية التشكيل). ولكن أولًا علينا أن نسأل، ماذا يعني أن تكون عاجزًا عن التعبير عن الوجود، حين تتجاوز اللغة اللا معنى في حدود لا نهائية؟ ما هو ذلك اللا نهائي الذي لا يمكن بلوغ معناه في اللغة، على غرار اللا نهائي في لغة المنطق الرياضي الذي لا يبلغ مداه؟ ومن هذا المنطلق التساؤلي تنشأ بلاغة الصمت في تثوير المعنى الحدسي، من خلال فلسفة بول كلي في نظرية الفن الحديث، إذ أن الذات تريد عبور تلك الحدود اللا نهائية المتمثلة في غموض الوجود من خلال تصور شكلٍ لها كما يشير لها كتاب نظرية التشكيل: «إن محاولتنا لإعطاء المادة شكلاً هو الرد على غموض المشهد الكلي للوجود وعلى ظلمة ما في عمقه. إن الغموض الذي ندرك أنه موجود داخلنا يتوازى مع غموض آخر خارجنا ألا وهو الكون، وهما يشكلان معًا الدافع للفعل الفني».13 يرى بول كلي على أن الفنان بوصفه فيلسوفًا ميتافيزيقيًا، يصور جوهر الأشياء في أعماق التحول الطبيعي من العدم إلى الوجود عبر فوهة الصيرورة، التي إنْ قبض عليها الفنان فإنها تحيطه بالألفة التي تمده بمعرفة عميقة بالوجود: «المبدع يحاول الإمساك بجوهر قوانين الخلق في رحلة الانتقال من العدم إلى الوجود».14 إنّ فلسفة كلي للفن الحديث تبحث عن الماورائيات، حيث إنّها لا تصور الأشياء الأرضية الظاهرية التي تشكل جزءًا من هذا الوجود، لأن المرئي حسب وصفه هو قطاع محدود من الواقع، بل إنّ هناك حقائقَ وأشكالًا كثيرة للوجود لا تبلغها اللغة المنطوقة، لهذا يرى إنه لا يمكن الوصول إلى تلك المسافة عبر التصوير الشكلي المباشر، وأن هذا البحث الفلسفي التصويري ينبغي أنْ يدخل عالمه الخاص، عالم الأشباح والخيال، ولهذا فإن جوهر الرسم يقود إلى تجريد الشكل كما يصفه في قوله: «الفن لا يكرر الأشياء التي نراها، ولكن يجعلها مرئية، وجوهر الرسم يقود غالبًا إلى التجريد، وهذا أمر مقبول منطقيًا. في التصوير تُقيم الأشباح وحكايات الخيال، وتكشف عن وجودها في نفس الوقت بدقة بالغة. وكلما زاد نقاء العمل التصويري، أي كلما ارتفعت داخله درجة الاهتمام بالعناصر الشكلية التي يتأسس عليها التصوير زاد الخلل في عملية تصوير الأشياء كما تتبدى للعين في الواقع»15.

تتأكد فلسفة الفن الحديث الميتافيزيقية في كثير من تفسيرات بول كلي، وهو ما لا يمكن للفنان أن يبلغه دون الوعي العميق بالذات والخبرة التجريبية والتأملية للوجود، والقدرة على الحفر في أعماق أسراره الغامضة، فسرُّ الفن حسب وصفه هو القدرة على النفاذ إلى ذلك السر الكبير ليفك أعمق أختامه ويمنحه شكلًا.16 إن الأهمية المعرفية التي يمدنا بها الفن الحديث، قادمة من حتمية إيمانه بالغيبيات التي تسافر به نحو عوالم الماورائيات، وهو بذلك يعني أنّ الفنان نفسه فيلسوفٌ في ممارسته فعل الفن وهو ما يشير إليه كلي في قوله: «الفنان ربما يكون فيلسوفًا دون أن يريد حقًا أن يكون كذلك».17

فهو إذن الغريب الذي يبحث عن معارف في اللا نهائيات تعيد له الألفة بالكون، أي إنها نابعة من إحساسه بالغربة التي لم تعد المعرفة الوجودية المحدودة بين ظواهر المادة تمده بالحقيقة، كما يقول محمود درويش: «وأنا الغريب بكلُّ ما أوتيت من لغتي»18. ولهذا فإن شرعية وجوده كفن متأصلة في منهجيته الفلسفية نفسها وليس في التطبيقات الفردية والمتباينة له.

التمرد في الفن المعاصر

وحين نعود مرة أخرى إلى الجاحظ، فإننا سنكتشف مناهضته للصمت في مقام الكلام، والذي أفرد له رسالة من رسائله أسماها (رسالة تفضيل النطق على الصمت)، فيقول في مقدمة رسالته: «مع أني لم أنكر فضيلة الصمت، ولم أهجِّن ذكره إلاّ أنَّ فضله خاصٌّ دون عامّ، وفضل الكلام خاصٌّ وعام، وأن الاثنين إذا اشتمل عليهما فضلٌ كان حظُّهما أكثر، ونصيبهما أوفر من الواحد. ولعله أن يكون بكلمةٍ واحدةٍ نجاةُ خلقٍ، وخلاصُ أمة».19 إنها تبدو لنا كمقدمة لفلسفة أخرى مناهضة للأنوية والفردانية! التي اختص بها الصمت، فتدعو لفضيلة الكلام على الصمت، وهي غاية الفكر والمعرفة التي تتشاركها الأنا والآخر، فهي نوع من الخطاب في بلاغة إظهار ما غمض من الحق، غير أنه حمّال أوجه من جهة أخرى في تراكيبه القصدية عندما يصور العيّي الباطل في صورة الحق عند صمت أهل الفكر كما قال الشاعر: 20

عجبت لإدلال الـــــعيِيِّ بنفسه               وصمت الذي قد كان بالحق أعلما

وفي الصمت ستر للعيِيِّ وإنما صحيفة لـــــب الــمرء أن يتكلـما

وفي جملة المضامين فإن الحكمة مرهونة بمقامها الخاص الذي يفضي بها نحو المعرفة اللازمة لموقعها، غير أن الفكر الذي يدّعيه لنفسه الخطاب الموضوعي يلزم الشراكة المعرفية بين الذات والآخر، والعاجز عن إضفاء فكرٍ ومعرفة لأفكاره هو ما يطلق عليه العرب بـ«العيي» كما يذكر الجاحظ في سياق طريف: «وقال كسرى أنوشِروان لبُزُرجمهر: أي الأشياء خير للمرء العييّ؟ قال: عقلٌ يعيش به. قال: فإن لم يكن له عقل؟ قال: فإخوانٌ يسترون عليه. قال: فإن لم يكن له إخوان؟ قال: فمالٌ يتحبب به إلى الناس. قال: فإن لم يكن له مال؟ قال: فعيٌّ صامت. قال: فإن لم يكن ذلك؟ قال فموتٌ مريح».21

فالمعرفة في طبيعتها كونها فكرًا فهي في موضع شك مستمر، وهذا ما يبقيها عرضة للهدم والبناء الفكري في رحلة بحث عن مضامين الحقيقة، فيما تتبدى لنا ظواهر الأشياء في حالة من الألفة أو عدمها فإننا نلتقي بها على أي حال بصفتها أفكارًا أولية في لقاءٍ مباشرٍ ظاهري تمتلئ بها ينابيع الذات، وهي أفكار نلتقطها بمدارك الحس والتصور. فهيجل هنا لا يجد هذه الأفكار فكرًا خالصًا بعد فهي لا بد أن تقع في المتناقضات من عملية التفكير22، فيما تتولى الذات مسؤولية التفكير تلك، في كونها الذات المفكرة لقول ديكارت الشهير: «أنا أفكر إذن أنا موجود».23 وهي ما يعبِّر عنها القرآن بـ -النفس- في سورة الشمس: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)» لهذا فإن الذات غير المادية هي مخلوق من خلق الله، والتي منحها الخالق خصائص الخير والشر في ذاتها من أجل وظيفتها المفكرة، وهذا يعني بأنّ الأفكار تقع في ميزان المتناقضات لتصبح فكرًا ومعرفةً بعد ذلك. ومن هذا المنطلق فإن الأفكار عندما تبقى أفكارًا فقط فهذا لأنها لم تدخل في عمليات التفكير بعد، وإنما التقطت بشكلها المباشر كما هو ظاهر أي كما يتمثل في عيانية الشيء كواقع محض أو هي تصورات حسية للواقع، ولهذا فحين تعلو دعوات الوعي بالذات فإنها تريد لها نتاجًا فكريًا عميقًا لأفكارها، فالذات العميقة حين يصفها هيجل يقول: «أعمق ما في الذات هو الفكر»24. فالفكر عندما نصفه بالجدلي فهذا لأنه لا يصبح فكرًا إلا بعبوره عملية المتناقضات، التي يمكن أن ندعوها بـ(اليمين والشمال)، وما أن تمسك بحل للتناقض حتى يتجلى الفكر، سواء كان في اليمين أو الشمال أو الوسط ولكن الأمر حين يفشل فإن الذات ترتد للصمت.25

فعندما نسمي الفن المعاصر بفن الفكرة، فهذا لأنه ينبغي أن يخلق عوالمه الجدلية لتحقيق الفكر، فهو يريد صراحةً أن يقول خطابًا مشتركًا لنا، فالأفكار تلك التي نريد لها فكرًا شموليًا هنا، تتميز في كونها عامة وخاصة في آنٍ معًا، فهي عامة لأنها تشترك في كونها أفكارًا جمعية، وخاصة لأنها تتميز بخواص الخبرة الذاتية وهو ما يعنيه الجاحظ حين قال: «وفضل الكلام خاصٌّ وعام»19. وإننا حين نتحدث عن الكلام في سياق الفن فهذا لأن الفن المعاصر يريد أن يتكلم بثقة المفكر ويخرج من حالة المعرفة الذاتية إلى المعرفة العامة والذاتية معًا، إنه يريد أن يفكر! فإن فعلَ التفكير هنا فعلٌ مضارع مستمر وهو ما ينبغي أن يبدو عليه العمل الفني، فمن خواصه أنه هو ذاته في حالة من التفكير وليس فكرة محضة أو فكرًا استنتاجيًا، وإن لم يكن كذلك، فإنه سيكون في مكان ما من التصور الحسي الخاص أو الاستنتاج الجاهز، الذي سيبقيه في حالة من الذاتية فقط مما سيفقده الاشتراك العام حينئذ. إذن، إننا حين نقول هذا؛ فلا بد أننا نمارس شيئًا معاصرًا وجديدًا من المحاكاة والتمثيل، بطريقة ما، دون وعي منا، فهذا السلوك يبدو أنه لم يتبدد منذ الكلاسيكية إلى يومنا، ويمكن فهم هذا السلوك عندما تكون تطبيقات الفن المعاصر تحدث عن طريق خبرة تلقينية مكتسبة، حينها ستسقط في هذه المساحة الرمادية، ويمكن ملاحظة ذلك في تطبيقات الفلسفة الجاهزة بشكل محض، أي أنها تنتقل من الدائرة الفلسفية النظرية إلى شكل يجاري موضوع الفلسفة تلك، أو كما يمكن مشاهدته في الأفكار التي لا تتجاوز النوستاليجيا والرومانسية الساذجة في حالة من المحاكاة والوصف الخالص لها. ومن ثم فإن اللغة المنطوقة الملحقة بها قد تشي بالكثير من هذا النوع من الأعمال بشكلٍ واضح وجلي؛ فاللغة عنصر مهم في بيانها عن العمل الفني، وهي نفسها فلسفة ولعبة لغوية غاية في الخطورة فيما تريد الوصول إليه. وإذا عدنا إلى مفكر اللغة فيتغنشتاين فسنرى أنه يمدنا بمعرفة المعنى الذي يمكن للغة إدراكه منطقيًا ضمن حدود نهائية، فكل ما يمكن أن نعبر عنه بوضوح عبر اللغة ويحقق معنًى هو أقل من اللا معنى الذي يدور في نطاق لا نهائي، ولذلك فإن محاولة تحقق المعنى في ألاعيب اللغة من الممكن أن يكون له حظًا واسعًا من الهراء عن أي معنى منطقي يمكن تحقيقه. من هنا يتحدد دور الفنان في منازعة الفكرة لإخراجها من طابعها المباشر المحض، وهذا التحديد يُبلغه الوعي التاريخي والمعرفي إلى حد كبير.

إننا عندما نتحدث عن الفن المعاصر فغالبًا ما نذكره عن طريق مرجعياته التاريخية المثيرة للجدل بطريقة نقلية وصفية لما قدمته من تعريفات لا تخلو من جوهر المنطق والعقلانية، غير أنها أيضًا حاولت -أي المرجعيات- تأسيس مفاهيم الفن المعاصر في الوقت نفسه من منطلق الذاتية العنيدة، والتي يمكن ملاحظتها في اللغة المناهضة التي تحاول إضفاء مشروعيتها كفن بإقصاء الآخر الموجود. فيجب ألّا نأخذ من ذلك المنهج الأناوي أو من مثله إلا معناه ونجدده بما يعزز وجود فكر خاص؛ فالشك والتحرر الفكري امتيازات يمنحنا إياها الفن المعاصر، وعليه فينبغي فحص تلك المفاهيم ومحاولة تفكيكها، لكن من الضروري أولًا تجاوز خاصية الوضوح الذاتي والفردانية التي تسللت بغتةً دون أن نشعر في تعريف ما هو فن إلى عالمنا المعاصر، حيث إنها قد تكون مسؤولة عن تورط الفن فيما يُقدَّم باسمه، وهذا ما عرّفه جوزيف كوسوت بأنه «تمثّل لنوايا الفنان فإذا ما قال إنه فن فهو فن».26 فهذا التعريف يحتمل إحدى أمرين، أولًا، إذا كانت غايته التشكيك بما هو فن كما قدمه (مارسيل دوشامب) فهذا الفعل الفني والثوري ذاته قد تم واكتفى بنفسه منذ دوشامب. ثانيًا، إذا كان تعريفًا فعليًا لما هو فن، فالقصد والمعنى الذي يستهدفه الفنان هنا أقرب إلى النية الداخلية التي لا يعرفها غيره، ولهذا فهي ذاتية خالصة، إذ إنها تتعارض مع المبدأ الأساسي للمنطق، وعبّر هيجل عن ذلك في قوله: «إن كل ما أعنيه أو أقصده أنا فهو لي: إنه ينتمي إليَّ أنا هذا الفرد الجزئي، أما اللغة فهي لا تعبر إلا عن الكلية، ومن ثم فإنني لا أستطيع أن أقول ما أعنيه فحسب»27. فالمعنى ملزوم بقواعد التوافق بين اللغة والمحتوى، والتوافق هنا يعني المنطق الذي يعبر هيجل عنه بالكلية، ولكن بدلًا من هذا التعريف المضلل، ينبغي أن ندرك بأن ما هو فن فهو فن بما يتمثل في ذاته ويكتسب مشروعيته من خلال جوهره، وهو باقٍ هناك نتذكره، لأنه يحفظ لنا شيئًا دائمًا.

الاغتراب في الفن

إن الفوهة الكبيرة التي صنعتها مسافة الزمن وما فيه من متغيرات سريعة تجعلنا بحاجة ملحة كما يقول جادامر إلى علم التأويل (الهرمنيوطيقا)، من أجل تفسير التغيرات التي أدت إلى اغتراب العالم المعاصر وضياع الشيئية، أي شيئية الأشياء التي يفتقدها الإنسان المعاصر في عالمه الاغترابي المكتظ بالصناعة والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، التي حجبت عنا حقيقة الأشياء أو ماهياتها وأساليبها في الوجود.28 وهذا ما يصفه المفكر عبد الوهاب المسيري بـ”علمنة الأشياء” في كتابه (العلمنة الجزئية والعلمنة الشاملة). ووصف جادامر تأثير هذه الظواهر المتغيرة بـ”اغتراب الوعي الجمالي”، ويعزو -جادامر- مسؤولية اتساع تلك الفجوة إلى فلسفة كانط في علم الجمال ومن اتبعوه بعد ذلك، فقد عرفها كانط على أنها فكر بذاتها، ولهذا فإنه يرى أنّ تجاوز هذا الاغتراب يمكن من خلال الوعي التاريخي والتأمل الانعكاسي الواعي للذات 29، وأن فهمنا للارتباط الوثيق بينهما من شأنه أن يحل إشكالية اغتراب وعينا عن الجميل، الذي بدأ منذ الفن الحديث ثم تعاظم في الفن المعاصر. إنّ واقع الوعي الجمالي الاغترابي يدخل في عالم الفنان والمشاهد على حدٍ سواء، فقد لا يألف أحد ما لوحةً من الفن الحديث لأنها تفتقد لأشكال الألفة الواقعية، ومن ناحية ثانية قد لا يألف الآخر عملًا مركبًا من مواد جاهزة الصنع لأنه ببساطة ليس لوحةً أو ألوانًا اعتاد عليها. ولا يعني ذلك أن ننظر إلى الأعمال تلك بنظرة شكلانية محضة وإلا لن نتعرف على ما يريد العمل الفني أن يقوله لنا، ولكننا نريد أن نعرّي اغتراب وعي الجميل الذي يخلق عدم ألفة بيننا وبين ما ينتجه الفن المعاصر. فالجميل كما يصفه جادامر محدد بذاته وقابع في جزئيات النظام الكلي للمعرفة، والمعرفة (الفكر) هنا بمعناها الصحيح تتحقق حينما لا نصبح محدودين بما هو ذاتي وحسي. غير أن المحسوس بكل جزئياته حتمًا يدخل النظام المعرفي بوصفه حالة جزئية* ممثِّلة لنظام كلي**.30 فالمعرفة الحسية تعني أنه من خلال الطابع الجزئي المميز لخبرتنا الحسية والذي يرتبط بطبيعته بالكلي، يكون هناك شيء ما في خبرتنا بالجميل يستولي علينا، ويفرض علينا أن ننعم النظر في المظهر الفردي ذاته. هنا، يتضح أننا في خبرتنا بالجميل لا نتحقق من صحة توقعاتنا ولا نسجل ما نلقاه بوصفه حالة جزئية للكلي، إذ إنه يحدث دون تحكم إرادي لفعل التفكير. ويشترك هذا الأمر مع فهمنا للذات كونها مركز التفكير والحس والتصور، ولذا فإن الحس والتصور بوصفهما آلات ذاتية يتكاملان ثانويًا بطبيعتهما في الإنتاج الفكري. فيما يرى هيجل من جهة أخرى أن الحدس من شأنه أيضًا ترتيب الأشياء الظاهرية الجزئية لتسلسل الفكرة الكلية، أي أنها تفعل فعلًا ترشيحيًا إن صح القول لبلوغ الفكر31، ولهذه الأسباب فإن تطبيقات الجميل في الأعمال المعاصرة التركيبية أو غيرها تتسم بطابع جمالي في ذاتها منعكسة من طابع عصرها الصناعي والتقني والثقافي فيتبدى ذاتيًا من خلال التنظيم والترتيب والتصميم والإضاءة واللغة. فهي مظاهر جمالية تدخل في دور ثانوي لإنتاج المضامين الموضوعية.

نزهة أخيرة في آبار الفن

إذن، فالفن الحديث حين يسلك درب الصمت فهو يسلكه من مضمون بلاغته وليس من منطلق العيِّ. وحين يمدنا بالمعرفة فإنه يمدنا حين يستقبلنا على نحو ما بخبرتنا الذاتية التي تلتقي معه إذا شاءت أن تلتقي، غير أنه في الوقت نفسه يتمتع بخبرة ذاتية خالصة ولا يمكن الالتقاء به إلا على هذا النحو الذاتي والفردي. ولكن حين يصاب هذا المنهج بالعياء فإنه يتركنا في فضاءات بصرية سطحية ومبتذلة، فلن يتعدى الحس والتصور هنا حدود الوجود الظاهري المحض، والذي يضعنا في حدود ضيقة لمعرفتنا وتفكيرنا فيما وراء الأشياء التي ينبغي أن تثير اهتمامنا وتحمل قضيتنا الخاصة في إنتاج المضمون الموضوعي فتحفظ له منهجيته الذاتية، بينما يكون قابعا في فلسفته الميتافيزيقية ذاتها. ومن الواضح هنا أننا لا نتحدث عن مبدأ ” الفن للفن” الذي أسس له كانط ومن اتبعه بعد ذلك في مجمل فلسفته لعلم الجمال فهذا المنهج الذي يراه جادامر المسؤول الأول عن فهمنا الخاطئ للفن الحديث والذي أخذت تطبيقاته تسلك طريقًا شكلانيًا محضًا.

أما من حيث صوت الاحتجاج والتمرد فالفن المعاصر يكفل تلك الحكمة لنا التي تؤسس طريقها إلى منافذ المنطق، المنطق الذي تحكمه عمليات التفكير المنهمكة في الأفكار التي تشعلها مواقد الحس والتصور والحدس، فالغاية التي يأخذنا إليها هي الفكر والمعرفة والتي تتحقق من خلال تلك السلسلة الذهنية من عمليات التفكير. إننا هنا إذن نقوم بعملياتنا الفلسفية الخاصة في عالم الوجود المتناهي الذي يشكلنا سياسيًّا وثقافيًا واجتماعيًا، إنه من حيث جموحه ومشاكسته لا يدع لوجود الأفكار من حولنا أن تفلت دون إحكامها للمنطق. فالفنان المعاصر يفعل ذلك بوصفه فيلسوفًا للظواهر الجزئية في عالمه. وهو بذلك يصبح فنانًا مستقلًا في فلسفته ومنهجيته إذ لا يحكمه مفهوم مسبق لدوره الفلسفي، ولذا فإن المرجعيات التي تعرّف مفاهيم الفن هي بالنسبة له تحت مِجهره الفكري الذي يوّلد ذاته المعرفية الخاصة وطريقه المتفرد في مجادلة الأفكار.

يمكننا القول هنا بأن لكل مقام مقال بلاغي من نوعه الخاص، كما ورد في البيان والتبيين للجاحظ: «وقال إسحاق بن حسان: لم يُفسر البلاغةَ تفسيرَ ابن المُقفع أحدٌ قط، سئل: ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسمٌ جامع لمعانٍ تجري في وجوهٍ كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابًا، ومنها ما يكون ابتداءً، ومنها ما يكون شعرًا، ومنها ما يكون سجعًا وخطبًا، ومنها ما يكون رسائل؛ فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحيُ فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة؛ فأما الخطب بين السِّماطَين، وفي إصلاح ذات البَين، فالإكثار في غير خطل، والإطالة في غير إملال، وليكُنْ في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته».32

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هامش:

* الجزئي يقصد بها جادامر الأفكار الجزئية المباشرة التي تشترك في إنتاج النظام الكلي للفكر أو المضمون الموضوعي.

** الكلي هو المعرفة أو الفكر أو المضمون الموضوعي في العمل الفني.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

1) البيان والتبيين – باب الصمت – تحقيق حسن السندوبي – نشر مؤسسة هنداوي ص151

2) البيان والتبيين – باب الصمت – تحقيق حسن السندوبي – نشر مؤسسة هنداوي ص151

3) البيان والتبيين – باب الصمت – تحقيق حسن السندوبي – نشر مؤسسة هنداوي ص152

4) قصيدة محمود درويش هدير الصمت

5) تجلي الجميل لجورج هانس جادامر – ترجمة د. سعيد توفيق ص77

6) تحقيقات فلسفية – ترجمة د. عبدالرزاق بنّور ص38

7) تحقيقات فلسفية – ترجمة د. عبدالرزاق بنّور ص63

8) تحقيقات فلسفية – ترجمة د. عبدالرزاق بنّور ص58

9) تحقيقات فلسفية – ترجمة د. عبدالرزاق بنّور فقرة 105

10) تحقيقات فلسفية – ترجمة د. عبدالرزاق بنّور فقرة 98

11) تحقيقات فلسفية – ترجمة د. عبدالرزاق بنّور ص64

12) تحقيقات فلسفية – ترجمة د. عبدالرزاق بنّور فقرة 512

13) نظرية التشكيل بول كلي – ترجمة عادل السيوي الطبعة الثانية ص39

14) نظرية التشكيل بول كلي – ترجمة عادل السيوي الطبعة الثانية ص35

15) نظرية التشكيل بول كلي – ترجمة عادل السيوي الطبعة الثانية ص101

16) نظرية التشكيل بول كلي – ترجمة عادل السيوي الطبعة الثانية ص93

17) Philosophical Vision: From Nature to Art, edited by John Sallis McMullen Museum of Art, Boston College page 15, Paul Klee-

18) جدارية محمود درويش

19) رسائل الجاحظ – الجزء الرابع- تحقيق وشرح عبدالسلام هارون ص233

20) البيان والتبيين – تحقيق حسن السندوبي – نشر مؤسسة هنداوي ص65

21) البيان والتبيين – تحقيق حسن السندوبي – نشر مؤسسة هنداوي ص66

22) موسوعة العلوم الفلسفية – هيجل – ترجمة إمام عبدالفتاح إمام ص64

23) مقال عن المنهج – رينييه ديكارت – رجمة محمود محمد الخضيري

24) تجلي الجميل لجورج هانس جادامر – ترجمة د. سعيد توفيق ص63

25) موسوعة العلوم الفلسفية – هيجل – ترجمة إمام عبدالفتاح إمام ص64

26) Art after philosophy and after article by Joseph Kosuth – 1966. Published by the MIT press

27) موسوعة العلوم الفلسفية – هيجل – ترجمة إمام عبدالفتاح إمام ص88

28) تجلي الجميل لجورج هانس جادامر – ترجمة د. سعيد توفيق ص58

29) تجلي الجميل لجورج هانس جادامر – ترجمة د. سعيد توفيق ص80

30) تجلي الجميل لجورج هانس جادامر – ترجمة د. سعيد توفيق ص88

31) موسوعة العلوم الفلسفية – هيجل – ترجمة إمام عبدالفتاح إمام ص74

32) البيان والتبيين – تحقيق حسن السندوبي – نشر مؤسسة هنداوي ص101

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.