على امتداد عقدين من الزمان فحص محسن مهدي[1] مخطوطات كتاب ألف ليلة وليلة، وقابل بينها، وتأمل صلة بعضها ببعض. ثم توصل إلى نسخة ألف ليلة وليلة في أصولها العربية الأولى، وسماها النسخة الأم؛ أي الأصل الوحيد الذي تعود إليه آخر الأمر كل نسخها الخطية. ميز بين هذه النسخة وبين نسخ أخرى سماها الأمهات القديمة؛ وهي نسخ لا نعرف عنها سوى عناوينها وأسماء عدد من الحكايات التي احتوتها، وهذه الأمهات القديمة فيما يرى هي الأصل الأول للنسخة الأم [2]. وقد اكتملت فرضيته على النحو التالي: هناك نسخ مفقودة لا نعرف عنها شيئًا هي الأمهات القديمة، ونسخ أولى مجهولة هي الأصل الأول لتلك الأمهات القديمة وسماها النسخة الأم، وهناك النسخ المتداولة الآن.
وبمقدوري أن أفترض أن ما سماه الأمهات القديمة لنسخة ألف ليلة وليلة الأم هي أسمار مُعدّة تجد مرجعيتها في كتب عربية شتى ككتب المسالك والممالك، والرحلات، والتاريخ، والأخبار، والخرافات لتُحكى في مجالس الطبقة العليا من المجتمع العربي في القرن التاسع الميلادي. هذه الأمهات أُعدت إعدادًا فنيًا محكمًا من قبل معدّين محترفين. لذلك وعلى عكس ما يقال فالنسخة الأم لم تنبع من روح الشعب، يدعم هذا الرأي أن ممن اشتغلوا على تأليف أمهات الكتب هذه قريبون من طبقة المجتمع العليا كسهل بن هارون، وعلي بن داوود، وعبد الله بن المقفع[3] الذي أرجح أن ترجمته أو تأليفه كتاب كليلة ودمنة جاء في هذا السياق. وقد مثلت الجغرافيا الإمبراطورية مركز الثقل في هذه النسخ المعدّة، لكن بعد أن تلاشى موضوع الجغرافيا الإمبراطورية. فالعالم الذي تذكره الجغرافيا الإمبراطورية كان قد تصدع[4]؛ فالبويهيون فرضوا وصايتهم على الخلفاء في بغداد، بينما انفرط عقد الإمبراطورية العربية من الأقاليم في اتجاه الاستقلال الذاتي.
في هذه المرحلة التاريخية كثر الطلب على الأسمار والخرافات، وبلغ الطلب ذروته في أيام الخليفة العباسي المقتدر حيث «صنّف الوراقون وكذبوا»[5] ومن وجهة نظرنا فليس غريبًا أن يصنف الوراقون وأن يكذبوا في عهد المقتدر، ففي عهده تصدعت الإمبراطورية إلى الحد الذي دفعت أحد المؤرخين إلى القول «اختلفت الدولة العباسية جدا»[6]؛ فقد فتح العامة السجون، وانقطع الحج، وضرب الروم الناقوس في الجوامع، وفي بعض المدن أخرجوا المنبر ونصبوا الصليب.
واكب تصدع الإمبراطورية العربية تغير ثقافي شديد الصلة بنشأة ألف ليلة وليلة. ففيما مضى من زمن الإمبراطورية العربية لم تكن الأسمار قد وصلت إلى حد الإنتاج المنظم، ولم يكن هناك جماعة محددة المعالم تؤلف الأسمار، أما الآن فهناك جماعة تؤلف الأسمار في إطار شكل للتجربة الفنية هو القراءة وليس الاستماع؛ عندئذ وبمساعدة هذا الشكل الفني الجديد أصبحت الأسمار أدبًا غير مقصور على الاستماع في وقت دون آخر كالليل؛ إنما يمكن أن يُقرأ الأدب في أي وقت. ومع الاستمرار في القراءة نشأ ما يمكن أن أسميه القارئ الذوّاقة الذي تدرب على معرفة الأسمار والخرافات وأسرارها الفنية، وقد أدى فهم هذا القارئ لذوق الجمهور إلى نتائج أهمها الأدب المكتوب بدافع اللحظة لا بدافع الخلود. هذا الأدب عبارة عن حكايات مكتوبة من أجل أن ترضي أذواقًا مؤقتة، وأستطيع أن أنظر إلى الكتب التي ألفت في العشاق على أنها أمثلة لهذا الأدب العابر.
يتعلق هذا بعامة الناس، أما الخاصة منهم وطبقًا للسيناريو الذي أفترضه، فقد زالت الامتيازات التي منحها الزمان لهم، ولم يعد لهم منها إلا ما يذكرهم بما كانت عليه الإمبراطورية. لقد انقلب التاريخ بسبب تكاتف قوى داخلية وخارجية، وانتشرت الفوضى التي يتلازم معناها السياسي مع معناها النفسي، وطغى الخوف مما ستؤول إليه الأمور، لهذا لم يعد للطبقة الخاصة إلا القدر الذي تستمتع به. فالخليفة لم يعد يدين له سوى خدمه وموظفيه الخاصين، ولم يعد له من السلطة إلا ذلك القدْر الذي كان يستمتع به هو وحاشيته. لم تعد هناك إمبراطورية بالمعنى الذي كانت عليه، ولا إدارة كما كانت في السابق. لم يعد هناك تضامن قومي، إنما ندماء، وأصحاب، وأقرباء، يتلهون بقنوطهم، وكأنهم يعبرون عن القنوط ذاته. يعزون أنفسهم بالسمر. قد يظن القارئ أن هذا بعيد الاحتمال، لكنني أعتقد أن من مثل هذا تُصنع طبقة المجتمع العليا.
بحلول هذه المرحلة التاريخية طرأ تغير على وظيفة الشعر، وعلى مركز الشاعر الاجتماعي، وحلّت محل ثنائية الشاعر والمستمع التي تؤكد على استقلال الشاعر وتبعية المستمع وسلبيته. ثنائية الشاعر والمستمع التي تعطي إحساسًا بقوة المتكلم وضعف المستمع، لقد حل محل هذه الثنائية ثنائية الراوي والمستمع، المتجانسان والمتشابهان في التفكير، والمتحدان في نظام القيم التي تربط أعضاء المجموعة، وطرأ تغيّر آخر على الطبقة العليا في بغداد، أسلاف مؤسسي الإمبراطورية العربية ذوي النزعة الحربية الذين أصبحوا ينظرون إلى الحياة بطريقة دنيوية لا أخروية بعدما انتهت فكرة الجهاد مع أسلافهم. وما تبقى من الإمبراطورية العربية ليس في أيديهم، ولم يتبق لهم إلا أن يروّحوا عن أنفسهم بالنثر الذي حل محل الشعر؛ فلا فتوحات ولا أمجاد ليمدحها الشعر. إذن ليس غريبًا من وجهة نظرنا أن يعتز هؤلاء بسرد مآثر أسلافهم؛ أي حكايات جهادهم وحروبهم، ومعاركهم الناجحة، وحروبهم الدامية، وأن تُخلط هذه المآثر والحروب والأحداث لدواع فنية بالجغرافيا الأسطورية والرحلات والعجيب والغريب. تبدأ الحكاية واقعية ثم تتحرك إلى ما هو أبعد عن الحقيقة حتى تتحول الحكاية إلى فنتازيا. لم يحدث هذا التحول دفعة واحدة إنما بالتدريج؛ فالأمر يعود إلى جهود أجيال متعددة قبل أن يتمكن ما سميناهم فيما قبل «معدّو النصوص» من التعبير عن الإمبراطورية العربية في شكل فني؛ أي أن حكايات الإمبراطورية وقصصها لم يكن من الممكن أن تظهر في الوقت الذي كانت فيه الإمبراطورية مشغولة بتمدّدها. فما كان يدور في مجالس الطبقة العليا في بغداد هو أشبه بنموذج الإمبراطورية الواقعي الموجود في مخيلتهم. ما هو مهم ليس سرد حكايات الإمبراطورية العربية وقصصها بالترتيب الذي وقعت فيه؛ لأن ذلك من عمل المؤرخين، إنما بالترتيب الذي غدت فيه تلك الحكايات والقصص ذات معنى لهذه الطبقة. لقد كان كل ما يمت إلى الإمبراطورية مقتبسًا، فقد انتقى معدو الكتب كل ما يمكن أن يكون ذا دلالة عند الطبقة العليا. هل كان هناك كتاب يُقرأ؟ أغلب الظن أن هناك كتبًا تُقرأ في مجالس الطبقة العليا وهي مختارات نجد شبيها لها في ما سماه بروكلمان «أدب السمر في النثر»[7]. ربما تكوّنت نسخة ألف ليلة وليلة الأم من أدب السمر هذا الذي يضم مختارات في الفضائل وأدب الملوك والنوادر والقصص التاريخي والحربي وأيام العرب صيغت بطريقة سردية، ثم دُوّن هذا الأدب في كتاب، وبعد مرحلة من الغموض الشيق خرج إلى الناس.
تورد طبعة هابخت أن الملك شهريار أحضر النساخ وأمرهم أن يكتبوا جميع ما جرى له مع زوجته، كتبوا ما جرى وسموه سيرة ألف ليلة وليلة في ثلاثين مجلدًا وضعها في خزانته، كاد المخطوط أن يظل أسيرًا إلى الأبد، لكن بعد وفاة الملك وزوجته اكتشف أحد الملوك المخطوط، قرأه وأعجب به أيما إعجاب، فأمر الناس بنسخه ونشره في جميع مدن مملكته[8]. قد تبدو للقارئ نهاية بعيدة عن أن تحدث في الواقع، لكن يوجد سبب كاف ليجعله محتمل الحدوث؛ فقد حدث ما يشبهها مع أول المعاجم العربية أعني معجم العين الذي مكث في خزائن الظاهرية في خراسان سنوات طويلة، وكان الناس يسمعون أنه محفوظ هناك، ولم يكن أحد قد قرأه بعد، حتى قدم به وراق من خراسان وباعه في البصرة بخمسين دينارًا[9]؛ وهو مبلغ كبير آنذاك.
سأسمي نسخة ألف ليلة وليلة الأم النسخة اللامرئية التي نفثت الرغبة في اقتفاء حكاياتها. إن إخفاء الكتاب عن الناس يجعلهم يتشوقون إلى قراءته، يكفي أن تثير مكامن شوق قارئ إلى أحد الكتب بأن تحرمه منه. لقد كان كتابًا ذائع الصيت وإن لم يُقرأ أو لم يكن موجودًا. وكما نعرف فلا يوجد هنا أي شيء خاص؛ فالمجهول أكثر جاذبية من المعروف. وعلى افتراض أن كتاب ألف ليلة وليلة نتج عن هذه العملية، فهناك إذن كتاب غير مرئي وغير مقروء هو أصل كتاب الليالي، وكل نسخة نُسخت بعد ذلك تتضمن بين دفتيها موجزًا من ذلك الكتاب الأول. نسخ تنحدر من كتاب كل ما فيه مقدر سلفًا، وهي بمثابة صدى وانعكاس لذلك الكتاب غير المرئي وغير المقروء. يمكن القول إنّ نسخة ألف ليلة وليلة الأم تشبه كتاب الرمل[10] لبورخيس. كلا الكتابين كالرمل لا بداية لهما ولا نهاية. لا حصر لصفحاتهما، ولا يوجد فيهما صفحة أولى، ولا يوجد صفحة أخيرة، حروفهما مجهولة، وقد رُقّما اعتباطيًا. يشتمان الواقع ويفسدانه في آن واحد، وإذا ما رأى قارئ صفحة منهما فلن يراها ثانية. مستمدان من عالم الكتب، ليسا كتابين فقط إنما مكتبة كاملة، نخبة من الكتب تستمد منها الكتب الأخرى مضمونها؛ فالأدب لا يتأتى من الكتب إنما يتأتى من المكتبات، الأدب بحث عن ذلك الكتاب المخبّأ في الأقاصي. الكتاب الذي يغير قيمة ومعنى الكتب المعروفة. لقد فتن كتاب الرمل الشخص الذي اشتراه حتى أنه أصبح أسيره. وما هو ممتع وذو دلالة لفكرتنا أن هذا الشخص أخفى كتاب الرمل في مكتبته وراء مجلدات كتاب ألف ليلة وليلة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] – مهدي، محسن، كتاب ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولى (ليدن، شركة ا.ى.بريل للنشر، 1984).
[2] – مهدي، محسن، ص 28.
[3] – النديم، ص 363.
[4] – بن الشيخ، جمال الدين، معجم الآداب العربية والأدب الفرانكفوني المغربي، ص 179.
[5] – النديم، ص 367.
[6] – السيوطي، الحافظ جلال الدين، تاريخ الخلفاء، (بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ت) ص ص 350، 375.
[7] – بروكلمان، 156-170.
[8] – تورد ترجمة ماردوس أن شهريار هو نفسه الذي نشر الكتاب ليكون عبرة للأجيال. انظر: كيليطو، عبد الفتاح، العين والإبرة، ص ص 20، 21.
[9] – النديم، ص 48.
[10] – بورخيس، خورخي لويس، كتاب الرمل، ترجمة سعيد الغانمي، (عمّان، دار أزمنة، الطبعة الثانية، 1999) ص ص 83-87. هناك ترجمة ثانية للقصة في: المرايا والمتاهات، ترجمة: إبراهيم الخطيب، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 1987، ص ص 16-20. يوجد ترجمة ثالثة في: مرآة الحبر، مختارات، ترجمة: محمد عيد إبراهيم، الطبعة الأولى، سورية، دمشق، دار علاء الدين، 2003، ص ص 191-197.