الشذرة في مواجهة النسق: نيتشه أمام السلالة الأفلاطونية | محمد صلاح بوشتلة

تستغرق 18 دقائق للقراءة
الشذرة في مواجهة النسق: نيتشه أمام السلالة الأفلاطونية | محمد صلاح بوشتلة

الشَّذرة هي تقليد يوناني قديم، وهي أيضًا أسلوب فلاسفة اليونان الأوائل في الكتابة؛ إنها أسلوب طاليس، وهيراقليطيس، وأنكسيمانس، وبارمنيد، وزينون الإيلي والقائمة تطول، وهي أيضًا الطّريقة التي اختارها العديد من كُتّاب الزّمن المعاصر ومن أزمنة مختلفة فهي أسلوب موريس بلانشو، ورولان بارت، وباسكال، ومونتاني، وفاليري، وكافكا، وسيوران وآخرون. فقرات من جمل، على شكل مقطوعات صغيرة، ومقتصدة جدًّا في استعمال الكلمات، غير أنها ليست بالهينة والسّهلة، فإنها تنشبُ مخالبها عميقًا وتعُض وتنهش. ولا يمكن إلا حملها محمل الجد، رغم أن أكثر من واحد من أصحابها أوْصَونا بمعاملتهم بشيء من الهزل. شذرات تمتاز بالقِصر ومصابة بمتلازمة القزمية، بشكل قد يكون سُبّة في حق من كتبوها، غير أن هذا هو مصدر فخرهم. تتميز بقلة نفَسٍ في المشي لمسافات أبعدَ من السّطر والسّطرين، وقد تصاب بضعف كبير في نبضات القلب إن هي تجاوزت الفقرة أو الفقرتين، لتظل رهيبة ومرعبة؛ عبارة عن سكاكين محددة، ونبال أُعدت للرشق فقط؛ مستفزة، ومجنونة، وذكية، وقوية، ونزقة، ومتمردة على التّفكير البرهاني، وعمّا ظنت تقاليد العقل أنه قد أطَّرته جيدًا، وسيّجته من أساليبَ قنّنتها لعرض أفكارها ومنتجاتها وتسويتها سرديًا.

الشّذرة قد ترفض كل شيء، لكن تبقى النّسقية أهم من تُعلن عن رفضها لها، إنها ألذ أعدائها، بمحاولة الجمع بين تعقل الفلسفة وجنوح الشِّعر، لتتراوح بين الصّحوة والهذيان، وبين ثقابة الذّهن ونفاذ الفكرة وانفلات التّعبير وتمرد المواضيع، وبين تشتت المعطيات واختلاف المرامي، وبين الاقتصاد في استعمال اللّغة والترف في إمكانات التّأويل.

1 ـ الشَّذرة فنّ كتابة من المستقبل

يختار أصحاب الكتابة الشّذرية أن يبقوا بعيدًا عن التّدقيقات الحصيفة والمعهودة للفكر ذات الجفاف الذي يغلب على كل ما هو منطقي بالإضافة إلى التّعابير الفلسفية الدقيقة، بشكل يُذكرنا بالمنجز الصّوفي الإسلامي مع النّفري ومن هم على شاكلته، حيث تهيم لغة الصّوفي نحو مسالك الشّطح والانزياح والتّبعثر بعيدًا عن لغة الفقهاء أصحاب النسق وسدنته في التّراث الإسلامي، ليكون اللّجوء إلى الشّذرة هو محاولة للشرود عن إكراهات النّموذج ومخاتلته، رغم أن الشّذرة لم يتم ترسيمها بشكل طبيعي في الزمن المعاصر إلا مع انتشار المنجز الفلسفي لنيتشه الذي فرضها نهجًا في الكتابة وطريقة في إيصال الفكرة، ربما لأنها في الأصل فنٌّ يخاطب المستقبل، فالنّمو ربما قد يكون بُعيد الوفاة أيضًا، كما يؤكد نيتشه، وكذلك التّوسع وفرض السّيطرة، فالشّذرة تبقى فنًّا يخاطب الأجيال التي ستأتي، كما أكد ذلك فريدريش شليغل، وكأن كتابات نيتشه إنما هي رسائل شكوى إلى من سيأتون، وهذه النّية الحسنة إزاء المستقبل هي من ستعطي الكاتب – أي كاتب، ونيتشه بالخصوص – خلوده.

رغم أن الكُتّاب الذين سيولدون بعد الممات، بحسب نيتشه، أُسيء فهمهم أكثر من المطابقين لعصرهم، بل ولم يُكتب لهم أن يُفهموا البتة[1]؛ إلا أنه سيُستمع إليهم بصفة أفضل[2] فيما بعد موتهم. فأحد صفات الفيلسوف عند نيتشه هي أنه كائن لا راهني، ولا زمني، وحتى إن رغب فلن يجد نفسه في الرّاهن الذي يحاصره، لذا غالبًا ما يتكلم عن نبوءات في المستقبل، ويسكن قربها. ولأنه  كائن لا راهني، فإن كل ما يجعله ابن عصره يجب أن يتهجم عليه[3]، ولنتذكر كلمة على شاكلة شكوى ونبوءة نيتشوية، ولكن على لسان مي زيادة (مي التي أدخلها أهلها مستشفى الأمراض العقلية، دون أن يهتم أحد بغيابها، وحينما ماتت لم يحضر جنازتها سوى ثلاثة أشخاص): «أتمنى أن يأتي بعد موتي من يٌنصفني»[4].

من الطّريف هنا، أن نستحضر، في خضم حديث شليغل ونيتشه عن أسلوب المستقبل هذا، «تويتات»، و«بوستات» وسائل التّواصل الاجتماعي التي هي في الأصل كتابة شذرية، وإن كانت في منتهى الابتذال والسّوقية أمام قُرّاء قد يفوقون كُتّابها شعبوية. تويتات آنية ولحظية أقل من أن تقترب من شذرات نيتشه التي ظنّ نيتشه أنها رماح من بلاغة وحكمة قديمتين مُصوبة نحو الأجيال القادمة. تويتات ما إن تُستعمل في حدث حتى يُلْقى بها إلى النسيان.

الشّذرة التي كان يكتبها نيتشه أو التي كان يمليها مضطرًا، كما يروي، وهو معصوب الرّأس من شدة الآلام المبرّحة[5]، لم تلاقِ كل التّرحيب الذي صارت تحضى به في زمن شبكات التّواصل، فالكتاب الشّذري «ما وراء الخير والشّر» مثلًا لم يبع منه غير 114 نسخة، في أول طبعة له، وذلك على مدى عشرة أشهر، حيث يقول في ذلك: «أي فكرة خطرت ببالك، يا كتابي الصّغير المسكين، حتى تنثر لأولئك الألمان! أية حماقة ارتكبت!»[6].

 لكن إساءة الألمان إلى نيتشه، في فهمه، وكذا في استقباله استقبالًا يليق به، سببها أن الألماني صار يتطلع لأمجاد أخرى غير القراءات العميقة، لأنه يرى في العمق قصورًا في مروءته[7]، رغم أن من الحكمة بالنّسبة لأي أمة أن تتظاهر بأنها أمة حكيمة وعميقة وفي نفس الوقت رعناء وخرقاء.[8]

رغم أنها فنُّ كتابةٍ مستقبلي، غير أن أهل الفلسفة، ضمن المستقبل الذي تحدث عنه نيتشه، أعلنوا تبرمهم من التّعامل مع الشّذرة، بما في ذلك الشّذرة النّيتشوية، إذ إن شكل الشّذرات يُشكّل كثيرًا من الصعوبات، أولها «أنّ المرء، اليوم، لا يأخذ هذا الشّكل، على محمل الجدّ كفاية»،[9] لكن يمكن طرح سؤال بسيط ومُربك في هذا الصّدد: ألا يمكن أن نشك في قيمة مكتوبات نيتشه؟ خاصة وهو يعترف بركاكتها في حديثه عن أول كتبه «ميلاد التّراجيديا»، وهو الكتاب غير الشّذري، ألا يمكن القول إن لجوء نيتشه إلى الكتابة المسترسلة قد أفقده اتزانه كذا مرة، لأنه فيلسوف استطرادات لا يمكن مجاراتها، نظرًا لتأثير فيلولوجيته في أدائه الكتابي؟ ليكون انضمامه إلى كوكبة من يكتبون بالشّذرة طمسًا منه لمعالم هذا النّقص، ومراوغة لنقطة ضعفه.

يقول نيتشه مُقيّمًا عمله «ميلاد التّراجيديا» الذي تمنى لو لم يكتبه: «إنني أعيد وأكرر بأنه الآن يبدو لي كتابًا لا يُحتمل؛ كتابتُه رديئة، ثقيلة. فهو كتاب متشعب، خيالي، متوهم، إحساسي، متخنث في ذوقه، غير متكافئ في سيره، غير ملتزم بالتنظيم المنطقي (…)، غير معتني بالبرهنة، بل محترز من جهد البرهان. كتاب وضع للمبتدئين، فهو تقريبًا موسيقى لأولئك الذين تعمّدوا في الموسيقى (…)، هو تقريبًا علامة تمييز للأخوة في الفن (…)، كم كان بودي أن ما كنت أريد قوله لم أتجرأ على قوله كشاعر (…)، أو كفيلولوجي»،[10] حتى أن أحد زملائه القدامى اتهمه بكونه فيلولوجي مزيف، خاصة، ونحن مع نيتشه، وفي كثير من اللحظات، قد نجد تغيّرًا لا تطورًا، ونجد تراجعات لا تقدّمًا في التّفكير، وانقلابات في الرّأي، وعودًا على بدء[11]. إنه باتكائه على الكتابة الشّذرية، فإنه يمسك بطرفيّ الخيط الذي يصل الماضي لا بالحاضر فقط، بل وبالمستقبل أيضًا، أن يجعل الفلسفة تتكلم شذريًا، هو اقتفاء للتمثّل الأكثر شيخوخة والأكثر استعادة للتّاريخ. إنها تصل المفكر الما قبل السّقراطي، بمفكريّ وحكماء المستقبل، يستثمر تقاليد التّعبير لدى الحكماء السبعة وحكماء العوالم القديمة، أي ما نسيناه بمحاولة استيعابه جيدًا من أجل استنساخ تجربته واستثمارها في أراضي المستقبل.

2 ـ عن قوة الشَّذرة

قد يُعتقد أن قيمة الشّذرة ليست في ذاتها، بل تستمد قيمتها وقوتها ومنزلتها من المجموع أو الكل الذي تنتمي إليه، أي من النّسق الفلسفي الذي يؤسّسه نيتشه، من فرادة معاركه، ومن تميز مقارباته، غير أن الشّذرة تبقى لها خصوصيتها من بين المجمل الذي ما إن تستقل عنه حتى تعلن الولاء إليه. إن الشّذرات تبقى كذلك كيانات مستقلة يُبرِز فيها نيتشه قواه اللّغوية، ويجهر فيها بقدراته الفلسفية، كما له فيها مآرب أخرى، بشكل تُحتّم علينا أخذها مأخذ الجد، وسط المتن الذي تنتمي إليه، ولا يجب معها تغليب كفة الكل ضدها، فهي من تُعيد بناء النّسق كل مرة، وتعيد تشكيله، وبها يسدّ صاحب الفلسفة ثغرات البناء المحكم، تمامًا مثل قطع الدّومينو التي يؤدي سحبها إلى إعادة تشكيل اللّعبة وتغيير مساراتها من جديد، بحسب الإمكانات المتاحة، وبحسب الخطة الجديدة في اللعب، وبحسب فطنة الخصوم وكذلك غبائهم.

 لهذا فقد يظن أو يعتقد «الفيلسوف أن قيمة فلسفته كامنة في الكل، في البناء، أما الأجيال اللاحقة فتجدها في الحجر الذي به بنُي والذي لا يزال يبني به النّاس، منذ ذلك الحين، يبنون به في أغلب الأحيان، وبشكل أفضل: يجدونها إجمالًا في كون البناء الأول قد يتم هدمه، ولكنه يحتفظ مع ذلك بقيمته كمادة للبناء»[12]. الأشياء البسيطة والقطع الصغيرة والومضات المنبعثة من قدّاحة قلم الكاتب هي من توقض النّار في هشيم وحطام الفلسفة. برفض نيتشه للنسق يكون قد «غيّر […] في العمق طريقة التّفلسف: إن تفكير نيتشه كما عرفته حنة أرندت، تفكير تجريبي. أول اندفاع له هو أن يحت ما هو جامد، وأن يُلغم الأنساق المقبولة عمومًا، وأن يفتح الثغرات لكي يغامر في المجهول؛ إن فيلسوف المستقبل سيصير تجريبيًا، كما يقول نيتشه، حرًّا في الذهاب في مختلف الاتجاهات التي يمكن أن تتعارض عند اللّزوم»[13].

 الشَّذرة إذن، هي الحجر الذي يشكل زوايا الصّرح النّيتشوي، والذي يعطي إمكانيات فهم مكتوبات نيتشه بأكثر من وجه، وبأكثر من زاوية، وبتغييرات بسيطة أو كبيرة في الحساسيات، وليضع أمام القارئ أكثر من إمكانية للاشتغال على نيتشه ومقاربة فلسفته، خصوصًا لأنه هو من نبّهنا إلى قول فولتير من أنّ «أكثر الكتب إفادة هي تلك التي ينجز القُرّاء نصفها»، فولتير ذو المواهب الكثيرة، وآخر الكُتّاب العظماء كما يصفه نيتشه[14].

الشَّذرة نصٌّ طويل، غير أنه بُتر وقُظم بشكل غير منتظم من كذا موضع، وأزيحت منه كذا جملة، واستعيض عن الكثير من الفقرات بفهم القارئ وكفاءته الموسوعية في تلوين البياضات، لتبقى عبارة عن لمحة، أو لمعة، أو ومضة، أو قبسة، وقد تكون مكتملة أو تحتاج إلى من يُكملها غير أنها بسعة دلالية تفيض عن حجمها، وتتجاوز إمكاناتها في رغبتها لقلب المفاهيم، والثأر من مذاهب فلسفية أو دينية، وتهشيم أقدام الأصنام الكلسية من عالم الفلسفة والدّين والصّحافة، وقد يتخللها شيء من الحِجاج المتماسك، لكن قد يغلب عليها أيضًا كثير من المماحكة والفذلكات الأدبية الكثيرة التّحذلق، لتعبّر عن نفسها شعرًا أو حكاية أو باعتبارها قصة قصيرة جدًّا، كالتي تتكرر في أكثر من موضع في «العلم المرح» أو التي تخترق «هكذا تكلم زاردشت» من أوله حتى منتهاه، أو كالتي تكثر في «إنسان مفرط في إنسانيته»، في صيغ تنخرط فيها الكتابة الأدبية بالمآرب الفلسفية الصّرفة.

3 ـ القزمية والغموض الممتدَحين

      وإن كانت السّرديات المطولة مملة، ومُطيلة جدًا، بشكل لا يحتمل، كما هي نصوص كانط، وهيغل، لأنها دومًا تود أن تقول لنا بأن: «كل شيء في الفلسفة يجب أن يظهر ويبرز»، ولو بطُرق كلها لفٌّ ودوران، كما حالة كانط وهيجل، غير أن مع نيتشه تمدُّ الشّذرة لسانها بالقول: «إن كل شيء في الفلسفة يجب أن يتخفّى في عتمة الشّاعرية». هنا يقول نيتشه، دون جحود، ولا نكران لفضل شكسبير الذي لم يعجب نيتشه يومًا: «إن الفهم يقتل العمل، والعمل يعتمد على حجاب الوهم، هذا ما تعلّمته من هاملت»[15]. لذا على الشّذرة أن تقول ولا تقول، فعليها أن تتولى مهمة التّوضيح والإفهام وأن تتضمن من التّرميزات والتشفيرات ما لا يستطيع معه القارئ أن يفهم كل شيء دفعة واحدة، فيستسهل الفيلسوف ويستسهل نصوصه، ليكتشف كل شيء دفعة واحدة، دون مناوشة للنص ومراودة لمعانيه.

رغم الغموض الذي قد تتميز به الشّذرة، وتُفلح في نسج خيوطه، غير أن اختيار الشّذرة التي لم تكن رائجة الكتابة بها في زمنه؛ لتؤدي مهمة أخرى مناقضة للمهمة الأولى، ويريد منها كذلك، أن تذهب بالفكرة إلى هدفها المحدد، دون لف ولا دوران، يريدها أن تصيب كبد الحقيقة في مقتل، شأنها شأن السّهام، لكن كل شذرة لها الحق في محاولة واحدة لإصابة الهدف، سهم واحد فقط، لا بد أن يصيب، أو تفشل المهمة من الأصل، مهمة شحذ ذهن القارئ، فالتعامل مع الكتابة الشّذرية هنا، يشبه التّعامل في حلبة مصارعة من جولة واحدة، وبضربة واحدة، وعلى كل ضربة أن تحقق إصابتها المرجوة، بأن تكون مميتة وفتاكة وقاضية، فالشّذرة لا أمل لها في الاسترسال إلى نهاية جولات المباراة كلها، بشكل يُتعب المتابع/ القارئ وقد يسرح به بعيدًا عن الموضوع، ويعطيه فرصة للانفلات من بين قبضتي كاتبه، ولهذا يختصر نيتشه موقفه من السّرد والتّطويل بقوله: «إن مرماي أن أقول في عشر جمل ما يقوله غيري في كتاب، بل ما لا يقوله في كتاب بأكمله».

نيتشه في الأصل لا يقوى على الثرثرة، ولا يستطيع الإنصات لكثير منها، ولا يقدر مطلقًا أن يقرأ للثرثارين، أكثر من علة مرضية تدفعه إلى البحث عن الكلام اليسير والمفيد يسمعه أو يقرأه، فبصره لا يقوى على قراءة الكثير والشقيقة التي تلازم رأسه تدفعه دومًا إلى الصمت والمشي في الأماكن المشبعة بالهدوء، لذا لم يكن يطيب لنيتشه البقاء طويلًا مع الكُتّاب النّسقيين، حيث يجد عند كل كاتب نسقي نوعًا معينًا من الثرثرة، فهناك كم من الثرثرة الغضبية المتواترة «لدى لوثر، كما لدى شوبنهاور. [و] ثرثرة يغذيها رصيد كبير من الصيغ المفهومية، كما لدى كانط. وثرثرة ميالة إلى تغيرات ما تفتأ أن تتجدد في نفس الموضوعة: كما لدى مونتاني. وثرثرة ذات طبائع خداعة: من يقرأ آثار عصرنا الأدبية سيتذكر بهذا الخصوص، كاتبين[16]*، وثرثرة ميالة إلى الكلمات الخاصة وأشكال البلاغة، الشّيء الذي لا يعد نادرًا في نثر غوته. وثرثرة سببها لذة صرفة في الضّجيج وفي فوضى الأحاسيس: لدى كارلايل (Carlyle) مثلًا[17]».

     ولأن الأشياء غير المكتملة دومًا ما تحضى بمتعة انتظار تمامها، فغالبًا ما يكون أثر العمل غير التّام أكثر لذة من أثر العمل التّام، فالعمل غير التّام له سحره الخاص، ذلك أن العنصر اللا معقول يغري خيال المستمتع ويحجبه، دون أن نخشى الاسترسال في الجزئيات وبذلك يكون إتمام العمل إضعافًا له[18]. أما الإسهاب في الكتابة ومحاولة إعطاء كل شيء حقه دون نقصان، فهي طريقة لا تحتمل، بل شيء مرفوض حتى لدى أكبر القُرّاء، ولنتذكر هنا أندريه جيد الذي يأنف التّطويل كتابة وقراءة![19]، ويمقتهما، والذي ترأس لجنة القراءة لدى دار النّشر «Gallimard»، لمدة طويلة، وكان من الرّافضين لنشـر البحث عن الزّمن الضّائع « À la recherche du temps perdu» لبروست، فلا أندريه جِيدْ ولا حتى ألفريد همبلوت الذي يشتغل لحساب النّاشر أولاندروف أمكنهم تحمل شخص يكتب ثلاثين صفحة، كي يصف كيف أنه ظل يتقلب في فراشه قبل أن يداعب النّوم جفنيه[20].

 4 ـ عن شاعرية الشَّذرة

ما يميز شذرة نيتشه هي شاعريتها، وما يميز الشّعراء، ويُشكل خطورتهم، ويشكل خطورة عليهم أيضًا، هو خيالهم الذي يُنهكهم قبل الأوان، كما يذهب إلى ذلك نيتشه، وهو ما يهب الشّذرة خطورتها، أي القدرة التّنبوئية التي كانت لعرّافات معبد دلفي حيث تُقام جسور حوار بين الغموض والرؤية دون ارتباك من قِبل من كتب الشّذرة التي تبقى بقدرة مربكة لمن يقرأها وبقدرٍ من التّلغيز يُلهم، غير أنه يظل مقلقًا ومثيرًا للاضطراب.

إن هذا الخيال الذي يتوقع ما سيحدث، إما أن يستمتع بذلك أو يعاني منه مسبقًا، وعندما يحين أوان الحدث أو الفعل يجد نفسه مُنهكًا، يقول نيتشه على لسان اللّورد بايرون: «إذا رزقت ولدًا فسيكون عليه أن يعمل عملًا له علاقة بالنّثر؛ إما رجل قانون أو قرصانًا»[21]، فشاعرية المرء ليست بالشّيء البسيط والسّهل، إنها المهمة الأكثر إنهاكًا ومسؤولية، وهي مهمة رؤية البعيد والمتواري والتنبيه عليه، ولهذا زرقاء اليمامة من جانب جغرافي وثقافي آخر ذهبت ضحية رؤية هذا البعيد والمتخفي، ولهذا يرى نيتشه أن الصّفة التي يُلصقها بنفسه، والتي يعتقد أنه يبزّ فيها الآخرين هي رؤية ما سيأتي وقدرته على قراءة كفّ مجاهيل المستقبل عبر شذراته، التي تتحدث مرّة عن روسيا التي ستأكل أوربا، ومرّة عن أمريكا التي ستأكل العالم، ومرّة يحاول أن ينغّص على الألمان حالهم من أن نيتشه سيجيء إليهم من فرنسا، وهذا ما حققه فلاسفة الاختلاف، فوكو والبقية، وهذا ما كان، يقول: «ما أرويه لكم هنا هو تاريخ القرنين التاليين. أصف ما سيأتي»[22]. لقد اختار نيتشه أن يظل شاعرًا عنيدًا، لا مجال لتمحل الحيل ليخفي انتماءه لجغرافيا الشّعراء، حيث نراه هنا يسأل ويجيب على طريقة: سين وجيم:

«أمُدّعٍ للحقيقة أنت؟ كذا سخروا

لا، مجرد شاعر!

دابّة محتالة، زحّافة، متوحشة

محكوم عليها أن تكذب»[23].

يؤمن أن الشِّعر أبلغ من وضع الأشياء في مجازات تغير من خلالها طبيعة أحكامنا على الأشياء، وتغير من مسارات أفكارنا المكونة لما حولنا، فانتماؤه الشّاعري إلى عالم اللانسقية الذي تمثله الشّذرة ويحكمه الشِّعر، وهذا ما جعل أفلاطون سَادن النّسق والنسقية وعرّابها،[24] يطرد الشّعراء من جمهوريته بدعوى تحريف الفكر عن درب الحقيقة، فلم يتجشم نيتشه الشّاعر أي عناء، من جهته، ولم يرتبك أمام أي خجل أو حياء قد تجلبه أُبوَّةٌ ما نحو أفلاطون، لينتقم ويأخذ بثأره منه، بل ويشمت به شتيمة يسجلها باسمه، ويستفحل الأمر إلى أن يطرده من رحمته، ليبقى العلاج من الأفلاطون هذا النّصاب المثالي كما يحلو لنيتشه وصفه، ليس علاجًا من تطابقاته مع الكنيسة في الأفكار المسكّنة وفي الخسّة التي تشكل النّذالة امتلاءها، وإنما العلاج منه يستلزم معافاة من أسلوبه أيضًا، وطريقة التّعبير والكتابة الأفلاطونية.

الشّذرة ضربة بفأس في الحصون التي سيَّجها أفلاطون جيّدًا، وضربة أخرى في الكتابة النّسقية المغلقة والمحكمة التسييج بأطر العقل؛ أي الكتابة غير المرتبكة والعاقلة وصاحبة السّمت الحسن، وذات الوقار الأخلاقي الذي يحترم تقاليد الكتابة، ولا يثور على ما استحدثه الأسلاف وتوافقوا عليه، فهي الصّنف أيضًا الذي ألّف وصاغ فلسفته من خلالها ديكارت الذي كان نيتشه مناوئه الأبرز في الأزمنة ما بعده، وكذلك هيجل وقبلهم كانط، وقبل كانط كان أفلاطون، بطبيعة الحال، أفلاطون الذي عدّته حنة أرنت ومعها كارل بوبر أبًا لكل الأنساق الحديثة التي ستُطل برأسها من خلالها الدّيكتاتوريات، وسيصدر عنها صاحب ربع شارب: الفوهرر أدولف هتلر الذي أراد بوبر قتله ذات مرحلة عمرية، والذي نُسب حزبه إلى فلسفة صاحب أكبر شارب في تاريخ الفلسفة نيتشه، نسبة وإن كانت رغم أنف نيتشه، غير أنها كانت بمباركة أخته، ليستعيض بوبر عن قتل هتلر بشكل فعلي، بقتل أفلاطون، ويكتفي بمحاولة إقبار ماركس وهيجل الذين كان لهما نصيب في إنتاج هتلر، كما كان لهيجل صاحب الأسلوب الرّديء، بحسب وصف نيتشه، حظ في تقنين الظاهرة «البونبارتية»، ليكون نيتشه فيما بعد ذلك طريقًا من عدة طرق للانفلات من قبضة هيجل[25]، ولكن كان طريقًا أخرى في تقنين الظاهرة «البونبارتية» في صيغتها الألمانية مع الفوهرر.

الشّذرة إذن ضد النّسق، وضد أفلاطون مفكر الأنساق، وعدو نيتشه من الزمن القديم. أفلاطون العدو الأكبر للفن الذي أنتجته أوروبا[26]، والممل كذلك[27]. إنه على عادة جميع الشّعراء رمز الطّوباوية الحالمة.

خاتمة

ليُغِير نيتشه صدر أفلاطون والأفلاطونيين أكثر فأكثر، سنجده مجدّدًا يمجّد شاعرًا من الحقبة الإسلامية وهو الشّاعر حافظ الشّيرازي الذي يهدي له نيتشه إحدى قصائده[28]، والذي يبقى عنده من الرّجال النّادرين والمتفوقين، بل ومن الرّجال الكاملين والنّاجحين، لأنه يُبلّغ الأفراح الإنسانية السّامية والشّامخة، إنه نتاج حياة أسلافه[29]، كما يذهب نيتشه، ضمن نفس الموقف من أفلاطون يتساءل نيتشه مفكر المشكلات، كما اعتبرته سارة كوفمان، بسخريته المعهودة: «ماذا يمكنني أن أتعلّم من الإغريق؟» وبالسّخرية نفسها يسأل مستغربًا: «من كان سيتعلّم الكتابة عن الإغريق؟»[30].

[1]– ف. نيتشه (1900)، غسق الأوثان، أو، كيف نتعاطى الفلسفة قرعًا بالمطرقة، ترجمة: علي مصباح، بيروت: منشورات الجمل، 2010، ص 14.

[2]– نفس المصدر، ص 14.

[3]– ف. نيتشه، ضد فاغنر، ص 5. 6.

[4]– الأعرج، واسيني، مي ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية، دار الآداب، 2018، ص 5.

[5]– ف. نيتشه، هَذا الإنسَان، ترجمة: محمد النّاجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشّرق، 2013، ص 102.

[6]– ف. نيتشه، ما ورَاء الخَير والشّر، ترجمة: حسّان بورقية، الدّار البيضاء، أفريقيا الشّرق، 2006، ص 9.

[7]– نفس المصدر، فقرة 243، ص 157.

[8]– نفس المصدر، فقرة 243، ص 159

[9]– تقديم المترجم، في جينيالوجيا الأخلاق، ترجمة: فتحي المسكيني، مراجعة: محمد محجوب، تونس، المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا، الطّبعة الأولى، 2010 م، ص 41.

[10]– نقلا عن محمد المزوغي، نيتشه، هايدغر، فوكو: تفكيك ونقد، تونس: دار المعرفة، 2004، ص 45.

[11]– محمد المزوغي، نيتشه، هايدغر، فوكو: تفكيك ونقد، ص 45.

[12]– ف. نيتشه، إنسان مُفرطٌ في إنسانيته: كتاب العقول الحرة، أفريقيا الشّرق، 2001، الشّذرة: 87. “تعلم إجادة الكتابة”، ج. 2، شذرة: 201، خطأ الفلاسفة، ص 67.

[13]– ميلان كونديرا، ثلاثية حول الرّواية: الوصايا المغدورة، ترجمة: بدر الدّين عرودكي. القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2007، ص 234.

[14] – ف. نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته: كتاب للمفكرين الأحرار، ترجمة: علي مصباح، بيروت : منشورات الجمل، 2013، ج 1، ترجمة علي مصباح، ص 193.

[15]– ف. نيتشه، مولد التراجيديا، تقديم مخائيل تانر، ص 27.

[16]* – يقصد أثار E.Duhring وريشار فاغنر.

[17]– ف. نيتشه، العلم المرح، ترجمة وتقديم: حسّان بورقية، محمّد النّاجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشّرق، 1993ـ، الشذرة: 97، عن ثرثرة الكتاب، ص 110.

[18]– ف. نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، كتاب العقول الحرة، ج 1، شذرة 199. إغراء العمل الفني غير التام، ص؟.

[19]– يتحدث أندريه جيد عن قراءاته لآلام فرتر لجوته فيقول: «انتهيت من إعادة قراءة فرتر مع بعض السّخط. كنت نسيت أنه يأخذ وقتا طويلًا كي يموت. فالأمر لا ينتهي، إذ نود في النّهاية أن ندفع فرتر من كتفيه. إن ما نأمله، لأربع أو خمس مرات، هو تنهيدته الأخيرة، لكن تتبعها تنهيدة بعد أخرى […]k يثير سخطي الرّحيل المزركش».

[20]– إيكو، أمبرتو (1932-2016)، 6 نزهات في غابة السّرد، ترجمة سعيد بنكراد، الدّار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005، ص ص 55. 87.

[21]– ف. نيتشه، الفجر، ترجمة: محمد النّاجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشّرق، 2013، شذرة: 254، الذين يتوقعون، ص 173.

[22]– ف. نيتشه، إرادة القوة: محاولة لقلب كل القيم، ترجمة وتقديم محمد النّاجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشّرق، 2011، ص 7.

[23]– ف. نيتشه، ديوان نيتشه، ترجمة: محمد بن صالح، كولونيا: منشورات الجمل, 2005، قصيدة مجرد مجنون! مجرد شاعر!، ص 259.

[24]– في هذا الصّدد يقول نيتشه عن أفلاطون: «لقد كانت محاورات أفلاطون أشبه بقارب لجأ إليه الشِّعر القديم وكل أبنائه بعد غرق سفينتهم: وقد صاروا، وهم مزدحمون في مكان ضيق يتحكم فيه نوتي الإشارة، الذي هو سقراط، وحده، يبحرون نحو عالم جديد لم يمل يومًا من الصور العجيبة لذلك الموكب. الحقيقة هي أن أفلاطون قد منح كل الأجيال اللاحقة شكلًا جديدًا من الفن، الذي هو الرواية التي يمكن أن نعرفها بأنها هي حكاية إيزوب متطورة بشكل كبير ويحتل فيها الشِّعر، بالنسبة للفلسفة، مرتبة شبيهة بتلك التي احتلتها الفلسفة، على مدى عدة قرون، بالنسبة لعلم اللاهوت: إنها مرتبة الخادم. تلك كانت مكانة الشِّعر الجديدة، وهي التي دفعه إليها أفلاطون تحت تأثير سقراط المجنون» (ميلاد التراجيديا، ترجمة: محمد الناجي، ص 72).

[25]– م. فوكو، جينيالوجيا المعرفة، ترجمة: عبد السّلام بنعبد العالي وأحمد السّطاتي، دار توبقال، الدّار البيضاء، ص 39.

[26]– ف. نيتشه، جينيالوجيا الأخلاق، ترجمة: فتحي المسكيني، مقالة 3، فقرة 25، ص 204.

[27]– ف. نيتشه، غَسق الأوثان، ص 172.

[28]– ف. نيتشه، ديوان نيتشه، ص ص 104. 105.

[29]– ف. نيتشه، إرادة القوة، شذرة: 481، ص 360. 361.

[30]– ف. نيتشه، غَسق الأوثان، ص 171.

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.