لتحميل المقالة : الجابري وقتل الأب: السؤال الأخلاقي والديكولونيالية الحزينة | فتحي المسكيني
هل ثمّة معنى للاستقلال الأخلاقي عن الغرب؟ ماذا يعني أن يدّعي «تابع» أو «آخر» غير غربي أنّه قادر على تجاوز الغرب أخلاقيًا؟ أو التحرّر من «هيمنته» بواسطة «القيم»؟ هل يستطيع السؤال الأخلاقي أن يغيّر براديغم الحداثة؛ أن يغيّر إحداثيات الإنسانية الحالية؟ أن يمارس «عصيانا أخلاقيًا» تجاه القيم الحديثة، وذلك في غياب «عصيان معرفي» بلا ضغينة؟ إنّ المجازفة المزعجة هنا هي الخلط البلاغي بين «الأخلاقي» و«الهووي»، نعني أن نأخذ الهاجس «الديكولونيالي» على أنّه موقف «هووي». ومن ثمّ أن نفهم «الهيمنة» الغربية على أنّها هيمنة هووية بحتة، أي مجرّد هيمنة سردية أو بلاغية، وليست تفوّقًا تكنولوجيًّا على مستوى شكل الحياة، على مستوى تجارب المعنى في أفق الإنسانية. وعندئذ، من يحق له أن يمنع هذا الآخر أو ذاك من العودة إلى الكهوف الروحية لثقافته بوصفها بديلًا «مشروعًا» عن شكل الحياة الحديثة؟ إنّ الأطروحة التي نفكّر بها هنا هي: إنّ سبب الصراع مع الغرب ليس «أخلاقه» بل «هيمنته». ولذلك لا معنى لمقاومته أو الاستقلال البلاغي عنه على مستوى أخلاقي طالما نحن لا نستطيع أن نقاوم هيمنته على عقولنا وأجسامنا.
لا جدوى من التفكير ضدّ الغرب طالما نحن نستعير منه المقولات التي ننقده بها. إنّ الغرب قد نجح في تنصيب «أبويّة» كولونيالية عالميّة لن يكون «قتل الأب» فيها ممكنا إلاّ بشكل «عائلي»: نعني، حين نعترف بأنّنا أعضاء في نفس العائلة مع الغرب، عندئذ فقط سوف نفهم أنّ التمرّد الأخلاقي لا معنى له لأنّ الهيمنة لا يمكن الانتصار عليها إلاّ من الداخل، أي من خلال براديغم الهيمنة نفسه. «نحن» حضارة هيمنة طويلة الأمد، ولا يحقّ لنا أن نلعب أيّ دور «آخري» أو «تابعيّ» في العلاقة مع ادّعاءات الغرب حولنا. ولذلك من السخف أن نتحصّن وراء أيّ نوع من أدبيات «حسن الجوار» الميتافيزيقي كي يتمّ قبولنا في نادي الغرب بوصفه حارس الإنسانية الحالية. لن ينفع هذه الأجيال الجديدة أيّ تمارين مزيّفة على «ثقافة الاختلاف» طالما نحن لا نوفّر لها أسبابًا حقيقية ليس فقط للاعتزاز بانتمائها الأصيل لمصادر أنفسها، بل خاصة للانخراط في شكل الحياة المعولم بوصفها تمتلك عضوية حيويّة وتكنولوجيّة على مستوى صنع تقنيات الكينونة في العالم في عصر التقنية. ونحن سوف نختبر هذه الفرضيات على عيّنة مضيئة في تاريخ الفكر العربي المعاصر.
من اللافت للنظر أنّ الجابري في كتابه «العقل الأخلاقي العربي»[1]، قد انطلق في بحثه من تشخيص «هووي» للمشكل الأخلاقي «العربي»، نعني من الحكم المسبق القاضي بأنّ «العرب لم ينتجوا، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فكرًا أخلاقيًا»، وهو حكم وجد أنّ أحمد أمين في مؤلّفه «كتاب الأخلاق»، قد كرّسه قائلًا: «لم يعرف العرب في جاهليتهم فلاسفة دعوا إلى مذاهب معيّنة كالذي رأينا عند اليونان»، ويضيف «قلّ من العرب، حتى بعد أن تحضّروا، من بحث في الأخلاق بحثًا علميًا»[2].
ما فعله الجابري هو أنّه وضع نفسه سلفًا في خانة الهاجس الهووي حول مدى مساهمة العرب في بناء «علم الأخلاق». ولذلك فإنّ أوّل ردّ فعل منهجي على ذلك الحكم المسبق «الاستشراقي» حسب رأيه حتى لو قاله «عرب»[3]، هو التنبيه إلى أنّ:
«الباحث العربي الحديث يصدر في تصوّره للكتابة في ‘الأخلاق’، عن نموذج ينتمي إلى ثقافة أخرى لها نظام قيمها الخاص، هي الثقافة الأوروبية[…] وبالتالي يحاكم الفكر الأخلاقي في الثقافة العربية بمعايير ذلك النموذج الذي يجعل ‘الأخلاق’ قسمًا من الفلسفة لا علاقة لها بالدين أو غيره. فهو هنا يحاكم قيمًا بقيم وأخلاقًا بأخلاق. وهذا اختيار يمكن أن يسلم لصاحبه، لكل أن يختار ما يبدو له أنه الأصوب والأفضل، ولكن فقط بعد الإفصاح عنه وتبريره حتى يكون عملية واعية، وليس مجرد انسياق وتقليد».[4]
نلاحظ بادئ الأمر أنّ الجابري يفترض أنّه ليس «باحثًا عربيًا حديثًا»؛ أي أنّه يمتلك طريقة خاصة للوقوف «خارج» أفق الحداثة عندما سيبدأ في الكلام عن «العقل الأخلاقي العربي»، والحال أنّ خطّة «نقد العقل العربي» نفسها هي مجرّد استيراد إيبستيمولوجي لنموذج فرضه كانط على الثقافة المعاصرة من خلال كتبه الثلاثة عن «نقد العقل». وهذا الادّعاء بإمكانية الوقوف خارج أفق الحداثة هو أوّل خلل في هذا الموقف: فهو نابع عن تصوّر «مكاني» للحداثة حيث يُفترض أنّه يمكن لثقافتين مختلفتين (مثلًا الغرب والإسلام) أن تتواجها بشكل «أفقي»، والحال أنّ «الأزمنة الحديثة» هي قد أكلت كلّ أفق الشعوب الحالية وحوّلت جميع سكّان الأرض إلى «معاصرين» موضوعيين لبعضهم البعض دون أيّ فرصة لادّعاء «الخارجية» المنهجية إلاّ على مستوى «هووي» فحسب. إنّ الجابري يتّهم أحمد أمين بأنّه «باحث عربي حديث»، أي «يصدر في تصوّره للكتابة في ‘الأخلاق’، عن نموذج ينتمي إلى ثقافة أخرى»، وبالتالي هو لا يطرح المشكلة الأخلاقية بشكل «خاص» بالعرب، بحيث يكون هذا الامتياز أو الشرط «الهووي» هو في تقدير الجابري الضمانة الإيبستيمولوجية لتبرير القول «النقدي» في «العقل الأخلاقي العربي». لكنّ لبّ الاعتراض الذي يرشح من الشاهد الذي أوردناه هو أنّ النموذج الأوروبي «يحاكم الفكر الأخلاقي في الثقافة العربية بمعايير ذلك النموذج الذي يجعل ‘الأخلاق’ قسمًا من الفلسفة لا علاقة لها بالدين أو غيره»، وذلك يعني ضمنًا أنّ «خاصية» النموذج الغربي هو كونه: أوّلًا يجعل من الأخلاق قسمًا من الفلسفة؛ وثانيًا، يفصل الأخلاق عن الدين أو عن شيء آخر «غير أخلاقي» (تقاليد وثنية مثلًا). ومن ثمّ ثالثًا، هو يحاكم قيمًا بقيم وأخلاقًا بأخلاق، أي هو طرح يعاني من «نزعة نسبانية» غير معلنة. ما هو وجه اعتراض الجابري على الطرح «الأوروبي» حول الأخلاق؟
هل يعني أنّه يرفض اندراج الأخلاق في صلب المشغل الفلسفي؟ أم هل يريد تأسيس الأخلاق على الدين؟ أم الاستنجاد بقيم وأخلاق «غير أوروبية» (قيم هووية خاصة بنا) من أجل «محاكمة» القيم الأوروبية بنفس سلاحها، أي المساواة الترنسندنتالية بين القيم أو بين الأخلاق بعامة؟ إنّ وجه اعتراض الجابري مخيّب للآمال لأنّه سرعان ما اقتصر على دلالة منهجية أو منطقية مجرّدة جدًّا ودون مضمون نقدي حقيقي، إذْ هو يردّ فقد بأنّ اعتماد «الباحث العربي» على «ثقافة أخرى لها نظام قيمها الخاص، هي الثقافة الأوروبية» هو «اختيار» يمكن أن نسلّم به لصاحبه شريطة «الإفصاح عنه وتبريره» حتى يكون «عملية واعية» وليس «انسياقًا وتقليدًا».
هل حقّا أنّ الشرط الوحيد هو منهجي هنا؟ أي يتعلق بمدى اتّساق الباحث مع مسلّماته؟ أو بمدى «وعيه» المنهجي بما يختاره؟ أم هو يتعلّق بصعوبة أكثر إشكالًا، وتبدو خارج أفق الجابري بشكل محرج؟
إنّ الصعوبة هنا هو أنّ الجابري يطرح السؤال عن الأخلاق التي يستوردها الباحث العربي من الثقافة الأوروبية، وبالتالي من «نظام القيم الخاص» بها، وكأنّ الأخلاق مشكل «نظري» أو «علمي» محايد. ولذلك حين وصف الباحث بأنّ له أن «يختار ما يبدو له أنّه الأصوب والأفضل» هو لم يستشكل هذه التوصيفات الأخلاقية، بل ربطها فقط باختيار الباحث. وذلك يعني أنّه يفهم «الصواب» و«الأفضلية» في معنى منهجي صرف، وليس في معنى أخلاقي. لا يطرح الاختيار إذن بالنسبة إليه أيّ مشكل «أخلاقي»، بل فقط أنّه سوف يحتاج إلى «الإفصاح عنه» و«التبرير» له. وكأنّ الإفصاح والتبرير لا ينطويان على أيّ إحراج أخلاقي للباحث العربي المعاصر. ونفس الأمر بالنسبة إلى مسألتين خطيرتين أخريين: نعني مسألة «الوعي»، ومسألة «التقليد». إذْ يتصرّف الجابري وكأنّ إفصاح الباحث «العربي» عن اختياره «الأوروبي» و«تبريره» سوف يجعله «عملية واعية» تحميه من السقوط في «الانسياق والتقليد». ولكن: هل يكفي أن نفصح عن تبعيّتنا المنهجية للثقافة الأوروبية ونبرّرها كي تصبح «عملية واعية» تحمينا من الوقوع في «الانسياق والتقليد»؟ ثمّ هل مازال بإمكان أحد أن يقف «خارج» العصر الغربي بحيث يمكنه أن يتّهم «الباحث العربي» بأنّه «منساق ومقلّد»؟ هذا «الخارج» الهووي هل ما يزال ممكنًا؟ أم أنّ هذا النوع من التشخيص «الخارجي» أو «الديكولونيالي» قد تحوّل بسرعة إلى جزء من المشكل ومن ثمّ صار عائقًا سميكًا يؤجّل بشكل محرج مواجهته فعلًا؟
لكنّ نقد الجابري للباحث العربي في الأخلاق له وجه آخر، إلى جانب الحديث عن «طغيان النموذج الأوروبي من جهة»؛ ألا وهو «النقص الخطير في معرفتنا بمعطيات تراثنا في هذا المجال من جهة أخرى»[5]. وعلينا أن نسأل: هل حقًّا ما ينقص العرب والمسلمين هو «المعرفة بمعطيات تراثهم»؟ أم أنّ «النقص الخطير» هو في مكان آخر؟
إذْ إنّ المتصفّح لجملة اعتراضات الجابري على الذين اشتغلوا على الأخلاق في الفكر العربي والإسلامي المعاصر إنّما يجدها محدودة جدًّا ومحصورة في اعتراضات منهجية شكلية:
مثلًا: هو لا يجد ما يعترض به على عمل ماجد فخري «الفكر الأخلاقي العربي»[6] إلاّ أنّه قام على «تحقيب يثير كثيرًا من التساؤلات»[7]؛ كذلك لم يجد ما يعترض به على محاولات أخرى «تجديدية» تسعى إلى أن «تقيم الدليل العملي على وجود ‘أخلاق إسلامية’ أصيلة»، سواء كانت طريقتها العثور على «أخلاق الغرب» في القرآن، أو السعي إلى «التحرر من تأثير الفكر الغربي واستخراج ‘الأخلاق الإسلامية’ من القرآن والسنة ‘كما هي’»[8]، إلاّ أن يقول عن الطريقة الأولى، إنّها قامت على «انسياق كبير وراء النظرة القانونية الحقوقية للموضوع»، وعن الطريقة الثانية، إنّها لا تعدو أن تكون «عرضًا» يقف عند «نفس الموضوعات المتوارثة من الفكر اليوناني والفكر الإسلامي […] مع هذا الفارق [… وهو] الاقتصار على القرآن والسنة»[9].
علينا أن نلاحظ أنّ المقياس «الهووي» هو الذي وجّه جميع اعتراضات الجابري: إمّا أنّ «الفكر الأخلاقي العربي والإسلامي المعاصر» يعاني من «تأثير» النموذج الأوروبي، أو أنّه مجرّد «عرض» للموروث. إمّا أنّه يعاني من «تبعيّة» هووية، أو أنّه يعاني من «نقص» منهجي. وعلينا أن نسأل الجابري: كيف يمكننا أن نساعد هذا الفكر التابع والناقص أن يتحرّر من تأثير النموذج الأوربي عندما يطرح السؤال الأخلاقي؟
ما يريد الجابري إقناعنا به هو أن «الوضع الراهن» في «الفكر الأخلاقي العربي» يعاني من «فراغ» فيما يتعلق بالقول في «نقد العقل العربي»، ويستنتج من ذلك أنّه «يعاني كذلك من شبه فراغ في مجال التأريخ للفكر الأخلاقي في الإسلام»[10].
ولكن هل فعلًا كان الجابري يشخّص «الوضع الراهن» للأخلاق عند العرب المعاصرين؟ نعني: على أيّ تحقيقات «سوسيولوجية» و«نفسية» و«قانونية» أقام أحكامه المنهجية على «الفكر الأخلاقي العربي» المعاصر؟ على أيّ دراسات ميدانية أو تاريخية أو روائية أو شعرية أو فنية … حول تمثيلات الجسد الخاص والميول الجنسية ومشاكل الجندر ووضع النساء وأزمة الهوية الشخصية وأزمة الانتماء الجماعوي وأشكال التذوّت وآليات التذويت وتجارب المعنى والتناهي والتعالي والقلق والخوف والموت، إلخ؟ ما هي طبيعة «الراهن» الذي يقصده الجابري؟ و«من» هو «الفكر الأخلاقي العربي» الذي يشخّص وضعيته السردية؟ هذا يفترض بالضرورة أن نعرف «الإنسان العربي» الذي نتحدّث عنه، وليس مجرّد «مكتبة» أي مدوّنة مغلقة ومحصورة من «النصوص» تقع خارج أو على حافة «الحياة اليومية» للناس الفعليين.
هل فعلًا يحتاج «الفكر الأخلاقي العربي» اليوم إلى مشروع «نقد العقل العربي»؟ إذْ علاوة على هذا الوصف «الهووي» للعقل بأنّه «عربي» وليس أوربيًا مثلًا – وهو توصيف غير مبرر «فلسفيًّا» – كيف نربط حقّا بين نقد الأخلاق ونقد العقل من دون أن نقع تحت هيمنة «النموذجية الأوروبية» التي فرضها كانط بين كتابيه المشهورين باسم براديغم الوعي «الترنسندنتالي»؟ كيف ندّعي «نقد العقل» خارج براديغم الذات الأوروبية؟ هل نتصوّر حقّا أنّه يمكن الاستغناء عن البراديغم الفلسفي الذي جعل إشكالية «نقد العقل» ممكنًا؟ نعني: أنّه من غير الممكن أصلًا أن ننقد العقل دون أن نفترض أنّه «العقل/الذات» الحديثة، وليس «العقل/المدوّنة» العربية الموروثة؟ لا يكفي أن «نعرّف» العقل بشكل مختلف (بدل أن نعرّفه بأنّه «ذات ترنسندنتالية» في نزاع قبلي مع نفسها، يقترح الجابري أنّه «منظومة» من المعارف أو من «القيم»، إلخ) حتى نبرّر لأنفسنا الحق الفلسفي في نقد العقل في ثقافة «غير أوروبية».
كان على الجابري أن يختار: بين الاعتراف بأنّ العرب أو المسلمين قد طوّروا نوعًا معيّنًا من «العقل/الذات» على طريقة الأوربيين المحدثين، وبالتالي ثمّة حاجة مبرّرة إلى الإقدام على «نقد العقل» بالمعنى الذي سنّه كانط، أي بالمعنى الترنسندنتالي؛ وإمّا أن يستبعد «النموذج الأوربي» استبعادًا «ديكولونياليًا» حقيقيًا، وبالتالي عدم «استيراد» إشكالية «نقد العقل» الكانطية باعتبارها إشكالية تحمل بصمة «كولونيالية» لا تخطئها العين، ألا وهي فرض هيمنة بنيوية أو براديغمية على طريقة تفكير أيّ باحث «غير غربي». لا يحق لنا «نقد النموذج الأوروبي» في طرح المشاكل (والأخلاقية منها خاصة)، ثمّ استيراد إشكالية «نقد العقل» الكانطية وادّعاء أنّ مكتبتنا تعاني من «فراغ» حاد من «محاولات سابقة في ‘نقد العقل العربي’»، كأنّ «نقد العقل» هو حاجة منهجية «كونية» وعلينا أن نقدم عليها، بل وندّعي أنّ هذا إنجاز «كان غائبًا تمامًا، إن لم يكن لنا فيه ‘سلف’»[11] يُذكر.
ولكن بأيّ معنى يمكن للجابري أن يفخر بأنّ مشروع «نقد العقل العربي» كان «غائبًا» أو «ليس له سلف»؟ الغياب والسلف مصطلحان زمنيان، يحيلان على تصوّر معيّن وموّجه للوعي بالزمان. هل حقّا أنّ «غياب» فكرة في ثقافة ما يمكن أن يشكّل تفوّقًا منهجيًا لاحقًا لباحث متأخّر؟ وهل يحقّ للباحث أن يفخر بأنّه «بلا سلف» عندما يفكّر؟
إنّ قارئ التراث الذي يتقمّصه الجابري إنّما يعاني هو ذاته من مفارقة لا يراها: من جهة، هو يدّعي أنّ رهانه الأساسي هو معرفة «التراث»، ومن جهة هو يفخر بأنّ ما سيقوله عن هذا التراث، تحت مسمّى «نقد العقل العربي»، هو «بلا سلف»، أي أنّه «مبتدع» تمامًا، ومن نحت عصر آخر. كيف يمكنه أن يجمع بين «إرادة التراث» و «الإبداع» المعاصر لإشكالية غير مسبوقة؟ إنّ أفضل ما يمكن أن يفعله قارئ التراث هو إساءة الانتماء بشكل يدعو إلى التفكير. وبهذا المعنى هو يعاني من معضلة داخلية في لعبته اللغوية: من جهة، هو يشتغل على مدوّنة أخلاقية تراثية منفصلة عن «عصرنا»، أي لم تعد تخاطبنا إلاّ على مستوى المادة «التاريخية» فقط؛ ومن جهة، هو يستورد «جهازًا مفاهيميًا نقديًا» من الثقافة الأوربية دون أن يخوض أيّ تقويم جنيالوجي للسلطة غير المرئية التي يمارسها على إشكاليته، على فرض أو زعم أنّ «الموضوع» المحلّي يمكن أن يحرّرنا من «المنهج» الأجنبي. وهو وهم إيبستيمولوجي وفلسفي يقع خارج مدار النقد بالنسبة إلى عقل الجابري.
وبهذا المعنى ادّعى الجابري أنّ ما سيقوله عن «العقل الأخلاقي العربي» سوف يسمح له «بالارتفاع بعملية النقد التي قام بها إلى الآفاق المعاصرة». وعندئذ علينا أن نسأله: ما أو من هو المعاصر عندئذ؟ هل هو التراث؟ أم الجهاز المفاهيمي المستورد تحت غطاء «الغياب» أو انعدام «السلف»؟ و أين يجب علينا أن ننصب «الآفاق المعاصرة»؟
فإذا بالجابري يجيبنا على هذا النحو: إنّ نقد العقل العربي قد «مكّننا من جعل تراثنا معاصرًا لنا، في الوقت الذي حرصنا فيه على الاحتفاظ به معاصرًا لنفسه»[12]. إنّ «نحن» السردية تقف متوارية هنا على نحو مزعج: إذا كان للعرب «تراث» أخلاقي فهو بذلك يعاني من انفصاله عنّا، لأنّه لم يعد يخاطبنا، إنّه يملك أفق الفهم لنفسه الذي فقدناه ويملك وضعيته التأويلية التي تجمّدت في وقت معيّن. ما معنى عندئذ أن نجعل تراثًا ما «معاصرًا لنا»؟ هل يكفي أن «نؤرّخ» له أو أن «نعرفه» بشكل «غير منقوص» حتى يدخل في هويتنا الجديدة؟ هل الهوية مجرد معلومة تاريخية عن «نحن» مجرّدة؟ هل هي مجرد سلوك «معرفي» تتبنّاه «نحن» سردية تبدو بلا تاريخ يستعملها الجابري دون أيّ مساءلة لتقنيات «الذات» التي فرضتها عليها الحقبة الكولونيالية، نعني «الآفاق المعاصرة» التي أشار إليها؟ وعندئذ: ما جدوى أن ندّعي أنّنا نجحنا في «الاحتفاظ به [بالتراث] معاصرًا لنفسه»؟ بأيّ معنى يمكن لتراث ما أن يكون معاصرًا لنفسه؟ كل تراث هو معاصر لنفسه، ولا أحد يحقّ له أن ينكر عليه معاصرته لنفسه.
يبدو أنّ الصعوبة التي لا يراها الجابري عند تقديم مشروعه عن «نقد العقل العربي» بوصفه يسمح له بكتابة تاريخ «العقل الأخلاقي العربي» مع عنوان صغير يفصّله إلى «دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية» إنّما تكمن في هذا الإشكال: إنّه لا يرى التضارب البنيوي بين «نقد العقل» (وهو مشكل ترنسندنتالي) وبين «تاريخ العقل الأخلاقي» (الذي هو مشكل «تأريخي»). والخيط المريب هنا هو مفهوم «النقد» الذي يختلف بشكل فلسفي حادّ بين أن يتعلق الأمر بالنقد الترنسندنتالي للعقل (الفحص عن طبيعة الملكات وحدودها بشكل قبلي) وبين النقد التاريخي لنظم القيم (أي تحليل معاني المصطلحات، ورصد أصولها الموروثة، وتدقيق تحقيبها، ووصف مسائلها، إلخ).
وهذا أدّى بالجابري إلى الخلط بين المهمّة «الفلسفية» (طرح إشكالية «نقد العقل المحض» التي تفترض براديغم «العقل/الذات» بالمعنى الكانطي والغربي بعامة) وبين المهمّة «التاريخية» (دراسة نظم القيم التراثية الخاصة بتقليد حضاري ننتمي إليه بشكل هووي). إنّ عنوان القسم الأوّل من كتابه الذي يعنينا هنا هو «المسألة الأخلاقية في التراث العربي»، وفضلًا عن التوقيع القومي هنا، وهو ما يفسد سلفًا «مفهوم» الأخلاق ويحوّل «الموضوع» المبحوث فيه إلى «تراث» هووي؛ فإنّ الجابري قد ضخّ جملة مريبة من المصطلحات «الأوروبية» في المشكل الذي يريد بناءه: من قبيل «القيم» و«الحرية» و«المسؤولية» و«التأسيس»؛ إذْ نعلم «فلسفيًّا» أنّ مفهوم «القيمة» لا يدخل الخدمة إلاّ مع نيتشه، حيث إنّ السؤال عن «القيم» و«أزمة القيم» سوف يعوّض السؤال القديم عن «الفضائل» والسؤال الحديث عن «الأخلاق» بالمعنى اللاتيني (moralitas)؛ وحيث إنّ «الحرية» لن تصبح نواة الإشكال الأخلاقي إلاّ مع كانط، بفضل الانتقال من براديغم الوجود إلى براديغم الذات؛ وحيث إنّ «المسؤولية» لن تُطرح كمشكل فلسفي رسمي إلاّ مع ليفناس، في نطاق نقاش صارم ومعقّد مع فكرة الحرية الحديثة، كما بلورتها تقاليد المثالية الألمانية؛ وحيث إنّ «التأسيس» هو مشكل ترنسندنتالي اخترعه كانط من خلال إشكالية «القبلي»؛ إلخ، كلّ هذه الصعوبات والأدغال الفلسفية «الغربية» لا يراها الجابري أو لا يرى أنّه من الضروري استشكال مشروعية استعمالها في دراسة تراث «غير غربي» كما لام على غيره، بل هو يفترض أنّه من الهيّن منهجيًّا أن نجيب عن مطالب «المسألة الأخلاقية في التراث العربي» بواسطة أداوت بحث متواضعة جدًّا لأنّها لا تتخطّى الدراسة اللغوية، ولا تقودها أيّ فرضية «فلسفية» خاصة، من قبيل: «تحديدات أولية» ملتقطة من معاجم اللغة العربية الكلاسيكية لألفاظ عامة ومنتزعة من سياقاتها التراثية (مثل «خُلق»، و«أدب»، و«قيمة»، إلخ)[13]؛ أو إلصاق عنوان غربي جدًّا بأفق فهم تراث غير غربي وخاصة «غير حديث»، عنوان من قبيل «في البدء كانت أزمة القيم !»[14]، حيث يتحدّث عن «انقلاب في القيم»[15] بعد ظهور الدعوة المحمّدية أو عن «أزمة الضمير الإسلامي»[16](متغافلًا تمامًا عن أنّ مفهوم «الضمير» هو غريب تمامًا عن المعجم الديني أو الأخلاقي الإسلامي؛ فهو مفهوم مسيحي جدًّا، ويصعب استعماله دون الوقوع في مطبّات نظرية لا طائل من ورائها).
إنّ جملة هذه الصعوبات، وأخرى كثيرة، أدّت بالجابري إلى تحويل مهمّة كتابه الأصلية (الدراسة النقدية لنظم القيم في الثقافة العربية) إلى «تأريخ» لمجموعة من «الموروثات»: الفارسي (أخلاق الطاعة)، واليوناني (أخلاق السعادة)، والصوفي (أخلاق الفناء)، والعربي الخالص (أخلاق المروءة)، والإسلامي (أخلاق المصلحة أو العمل الصالح). وعلينا أن نسأل: ما الذي يمنح هذا «التأريخ» دلالة «فلسفية»؟
من اللافت أوّلا حديث الجابري عن «موروث عربي خالص»[17] ثمّ عن «موروث إسلامي خالص»[18]، وذلك من دون توقّف موضوعاتي وإشكالي لمفهوم «الخلوص» و«الخلاص» في هذا السياق «النقدي». ما الذي يمكن للفلسفة أن تقدّمه من «الأخلاق» على أنّه «موروث خالص» لشعب دون سواه، وليس شيئًا مشتركًا بين البشر؟ لا يكون مفهوم ما «فلسفيًا» إلاّ ما بقدر ما لا يحقّ لأيّ شعب أن يدّعيه «خالصًا» لنفسه. إنّ دعوى «الخلوص» و«الطهارة» هي دعوى كل «أصالة» تنتهي بتدمير «كونية» الأخلاق وتحويلها إلى مشكل «هووي»، أي إلى «سردية خاصة» بنوع من المجتمعات، إلى «هوية سردية» وليس إلى مفهوم معياري.
لكنّ وجه الصعوبة التي تزعج في عمل الجابري هو الإبهام الذي سيطر على إشكاليته في الباب الخامس «الموروث الإسلامي. في البحث عن أخلاق إسلامية»[19]. هو عنوان مرتاب لأنّه يستعمل عبارات مرتبكة أو لا تخلو من مفارقة أحيانًا: مثلًا ما الفرق بين «الأخلاق» و«القيم»؟ وما معنى «أخلاق الدين»؟ ثمّ «أخلاق القرآن»؟ وما الفرق بين «الأخلاق» و«الآداب»؟ ورأس الارتباك هو استعمال مفاهيم كانت لا تزال متداخلة، ولكن خاصة أن نعرض عن التمييزات التي ندين بها اليوم إلى «الفلسفة الحديثة» (المسماة «غربية» بشكل هووي) بل وندّعي عدم الحاجة الإشكالية إليها. وهو ما يتجلّى خاصة في أطروحة «تأسيس» علم جديد هو «أخلاق الدين» أو «أخلاق الآخرة»، التي عثر عليها في كتابات كاتب إسلامي هو الحارث بن أسد المحاسبي (165-243 ه)[20]. وهو يسوق ذلك باعتباره عملًا يدشّن «محاولات» كثيرة لاحقة «في أسلمة الأخلاق»، أي تطوير «التفكير في مشروع إنشاء أخلاق إسلامية»، يبدو أنّ الجابري قد عثر لدى ثلاثية الماوردي-الأصبهاني-الغزالي على المحاولات الأهمّ بشأنها[21]، لكنّ من نجح، في تقديره، على تجاوزهم جميعًا نحو تأسيس «أخلاق إسلامية» هو العزّ بن عبد السلام (577 ه) من خلال إبراز القيمة المركزية لتلك الأخلاق «الإسلامية الخالصة»، ويعني بذلك قيمة «العمل الصالح»[22].
إنّ الجابري يطرح المسائل لدى هؤلاء «المؤسلمين» للأخلاق اليونانية دون أيّ استشكال «حديث» لها، بل هو يرافق المدوّنات الكلاسيكية وينصت إلى صوتها كما قالته، ويردّده في حدود ما فهمه المؤلّفون القدامى. ولكن خاصة: هو يسلك سلوكًا تأريخيًّا يكاد يكون استشراقيًّا أي محايدًا وخارجيًّا، يتعامل مع المشاكل الذي فكّر فيها الأسلاف وكأنّها «أشياء» إبستيمولوجية يكفي أن نعرفها بدقّة حتى نفكّر في طرافتها الخاصة. والحال أنّ الجابري لم يفعل سوى معرفة تلك لمسائل، لكنّ التفكير الفلسفي فيها هو مشكل آخر لا نراه اقترب منه أصلًا. مثلًا: بدلًا من مواصلة النقاش ما قبل الحديث (العقيم اليوم) عن أسلمة الأخلاق (والمقصود هو «أسلمة» الأخلاق اليونانية، المهمة التي اشتغل عليها، حسب الجابري، الفارابي والعامري ومسكويه والماوردي والراغب الأصبهاني[23])، اقترحت الفلسفة الحديثة، بفضل إشكالية الانتقال من براديغم الوجود إلى براديغم الذات، أن نقبل بوقوع «استقلال» معياري لدوائر القيم، أي أن نفصل بين دائرة الأخلاق (ماذا يجب عليّ أن أفعل؟) عن دائرة الدين (ماذا يحقّ لي أن أرجو؟) وعن دائرة الفن (ما هو الجميل؟) ودائرة السياسة (ما هي السيادة؟)، كما نفصل بين مجال «المعرفة» (العلوم الوضعية) وميدان «التفكير» (أسئلة الميتافيزيقا)، إلخ. إنّ أخذ هذه الأنماط من الفصل «الحديث» في الاعتبار كان يمكن أن يربّحنا أطوارًا مرعبة من الاستشكال ومن الفوز بآفاق فهم أخرى تمامًا، حرّة إلى حدّ غير مسبوق، من عوائق الجدالات «ما قبل الحديثة»؛ حيث لا يزال ذلك الفصل بمختلف أشكاله غير وارد أصلًا بسبب هيمنة براديغم الوجود اليوناني.
ولذلك فإنّ كتاب الجابري يبدو، من الناحية «الفلسفية»، كتابًا مخيّبًا للآمال: إنّه لا يمت بصلة إلى إرادة «نقد العقل» التي ادّعاها عنوانه، بل نحن لا نعثر على أيّ عقل أخلاقي عربي إلاّ بالمعنى المجازي؛ أي على سبيل التقوّل فقط، وفق عادة استعمال المفاهيم الرائجة بين أساتذة الفلسفة في العالم، وليس لدينا فقط. ونعني بذلك أنّ الحديث عن «نقد العقل العربي» أو عن «عقل أخلاقي عربي» هو مجرّد نجاح أسلوبي أو «اصطلاحي» (idiomatic)، وليس استشكالًا مفهوميًّا حيث يجب عندئذ مواجهة كانط نفسه والتخلّص من هيمنة الإشكالية الترنسندنتالية.
ولذلك فإنّ الفصل الأخير ما هو سوى تكريس منهجي للصيغة العنيفة أو الحادة من مشروع «أسلمة الأخلاق»[24] الذي ينطوي على أطروحتين صارت مخيفتين اليوم: أوّلا الإعراض عن الفصل (الحديث) بين الأخلاق والدين، والتفكير في القيم من دونه، أو بتجاهل تام له بل وادّعاء عدم الحاجة إليه، وثانيًا الخلط المتعمّد أو المماهاة «الفقهية» المريبة بين «أخلاق الدين» و«الآداب الشرعية»، بحيث لن يعود من الممكن أبدا الاعتراف بأيّ «استقلال» قيمي بين «الواجب الخلقي» و«التقوى الدينية» و«الطاعة السياسية»، بين «المتخلّق» و«المتديّن» و«الرعيّة»، وكل ذلك في غياب أيّ تفكير موجب ورسمي في ماهية «السعادة» التي يحق للمسلم الأخير اليوم أن يتطلّع إليها.
وإنّ المكسب البحثي الوحيد الذي ذكره الجابري – إلى جانب دعوى «عقل أخلاقي عربي» – هو أنّ عثر على «الفضاء الفكري» الذي يجمع بين أربعة مفكّرين إسلاميين (المحاسبي، الماوردي، الراغب الاصبهاني، الغزالي) كتبوا في الأخلاق لكنّ كتاباتهم ظلت بلا «خيط رابط» بينها، وقد عثر عليها الجابري في كتابات العز بن عبد السلام. وهذا يعني أنّ المكسب البحث الرئيسي في تقديره هو رسم «فضاء فكري» ينظّم لنا وصف «التنافس المتنامي بين نظم القيم التي تروّج لها الموروثات الخمس في الساحة الثقافية العربية»، وهو يصف هذا المكسب «المنهجي» أو «الإجرائي» أو «التشكيلي» بأنّه «طرح مغاير…وموضوع آخر»[25]. وما هو الطرح المغاير؟
إنّه التأكيد على «أخلاق إسلامية خالصة» موضوعها الذي تتميّز به عن «طاعة» الفرس، و«سعادة» اليونان، و«فناء» المتصوفة، هو قيمة «العمل الصالح» (!). وكأنّ العمل الصالح اختراع أخلاقي خاص بالمسلمين، لكنّهم تخلّوا عنه، ولذلك فإنّ آخر لوم يوجّهه الجابري لهم (وذلك هو السطر الأخير من الكتاب) هو «أنّهم لم يدفنوا بعدُ في أنفسهم ‘أباهم’: أردشير!»[26]. ولكن ما معنى اسم أردشير هنا؟
في مقابلة أُجريت معه سنة 2001،[27] سئل الجابري عن هذه العبارة فقال إنّها «تنطوي على شيء من الرمزية»، وهو «قتل الأب» بالمعنى الذي شاع بعد فرويد. ولكن كيف يمكن قراءة كتاب عن «العقل الأخلاقي العربي» يعتقد مؤلّفه أنّ أفضل تلخيص له هو «قتل الأب»؟ يعني قتل الأب عنده أوّلًا التخلّص من فكرة «الاستبداد الشرقي» بوصفه فكرة «غير إسلامية» بل جاءت إلينا من «الموروث الفارسي الذي يحتل أردشير موقع المرجعية والرمز». ينطوي هذا الطرح «المغاير» على تلميحين غير مفيدين للباحث: أوّلًا أنّ الموروث الفارسي (أي أخلاق الطاعة)، هو عنصر غريب «عنّا»؛ وثانيًا أنّ الاستبداد الشرقي ليس مفهومًا «إسلاميًا». يقتضي ذلك أنّ المعجم الإسلامي هو خال من مفهوم «الطاعة» (وهذا غير صحيح)؛ وأنّ الحكم في الإسلام لم يعرف ظاهرة الاستبداد (وهذا عار من الصحة). ماذا كان يقصد الجابري إذن؟ ما هو «الشيء الرمزي» الذي يلمّح إليه؟
إنّ «قتل الأب» في الحقيقة ليس مشكلًا متعلّقًا بالاستبداد أو أخلاق الطاعة؛ كما شرح الجابري في مقابلته، بل هو مشكل أخلاقي. ومن السهل صياغة الصعوبة وكأنّها مشكل «سياسي»:
قال: «لم ينهض العرب والمسلمون بعد، ولا إيران ولا غيرها من بلاد الإسلام، النهضة المطلوبة. والسبب عندي أنهم لم يدفنوا بعد في أنفسهم ‘أباهم’: أردشير»[28].
يبدو لنا أنّ الجابري قد نقل مشكل الكتاب من الأخلاق إلى السياسة، ليس فقط لأنّه يكرّس «أساس» مشروع الأخلاق الإسلامية الخالصة، أخلاق العمل الصالح، نعني عدم الفصل الصريح بين «المتخلّق» و«المتديّن»، بين الدنيا (المجتمع) والدين (جماعة المؤمنين)؛ بل لأنّه كان حريصًا على عدم مواجهة «السؤال الأخلاقي» بما هو كذلك، نعني كما صار مطروحًا منذ فرويد – منذ «قتل الأب» – ومن ثمّ حصر نقد العقل العربي المطبّق على مجال الأخلاق في مجرّد عمل «إبستيمولوجي» ناجح منهجيًّا: ألا وهو رسم «فضاء فكري» يقوده «خيط رابط» بين المفكرين المسلمين في مجال الأخلاق:
قال: «كان هناك غياب تام، في أذهان الدارسين للتراث العربي الإسلامي، لفضاء فكري استمر في التموج والتبلور ما يزيد على أربعة قرون. وقد كشفنا عن هذا الفضاء وأبرزنا ذلك الخط».[29]
هل كان «قتل الأب» مجرد إجراء إبستيمولوجي للعثور على «خيط رابط» ورسم «فضاء فكري» ييسّر عملية التأريخ لنظم القيم عند العرب؟ أم أنّ الرمزية تخدعنا هنا؟
قال مستدركًا في آخر سطر قبل خاتمة الكتاب: «واضح أنّ الأمر يتعلق هنا بأفق جديد: أفق يطرح العلاقة بين ‘الأحكام’ و’الأخلاق’ طرحًا مغايرًا للطرح المعتاد، غير أنّ هذا موضوع آخر!».[30]
تبدو هذه الإشارة الاعتراضية والخجولة مثيرة للقلق: هي تنقل المشكل من التأريخ للقيم الموروثة إلى طرح العلاقة بين «الأحكام» و«الأخلاق»، أي بين السياسة والمصلحة في أفق المسلمين. هذا اعتراف ضمني بأنّ الجابري لم يكن ينتظر شيئًا كبيرًا أو حاسمًا من بحثه حول «العقل الأخلاقي العربي»: يبدو بالنسبة إليه عقلًا بلا وعد حقيقي حول صلاحية ادّعاءاته، ولذلك اضطرّ إلى تجذير المسألة الأخلاقية بفتحها على أفق السياسة. كأنّه ينبّهنا في نهاية التحليل إلى أنّ السؤال «الأخلاقي» عن القيم عندنا لا يمكن أبدًا أن يُفهم بما هو كذلك إلاّ متى طرحنا السؤال «السياسي» عن الأحكام طرحًا يضع الأخلاق في مكانها من إشكالية الإسلام بعامة.
ومع ذلك فإنّ هذا الانزلاق من الأخلاق إلى السياسة ليس هو المغزى العميق من رمزية ختم الكتاب بعبارة «دفن الأب». لا يمكن دفن الأب بطريقة «سياسية». ولكن هل كان يمكن القيام بهذه المهمّة «ما بعد فرويد» من دون مفهوم «الذات» أو في تراث لم يعرف إشكالية الذات؟
إنّ غير المفكّر فيه في إشكالية الجابري هو أنّ قتل الأب مشكل أخلاقي عميق، وليس متعلقًا بمجرد التخلص السياسي من سلطة «ملك الملوك أردشير»؛ أي من مجرّد «نمط من الحكم». إنّ ما يفوّته الجابري في هذا التعويل على إنقاذ السياسة من أجل إنقاذ الأخلاق هو التعرّف إلى ميدان السؤال الأخلاقي نفسه، أي «أخلاق الذات» (وهي عبارة ترد في الكتاب وتُنسب إلى الماوردي في نوع من التهكّم الصامت للمفاهيم[31]) الذات المتخلّقة نفسها، تقنيات ذاتها، وتاريخ آلامها الخاصة، وكل إشكالية «الحياة الخاصة» وتعابيرها المعاصرة (الفرد، الهوية الشخصية، قضايا الجندر، السردية الخاصة، الجنسانية، الباثولويات الاجتماعية، عدمية القيم، لاهوت موت الإله، أشكال العناية بالذات، الإنسانوية المضادة، ما بعد الإنسانوية، الدين الشخصي، الإيمان الحرّ، العيش الحرّ، الجيل z، إلخ).
[1]– محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي (4). العقل الأخلاقي العربي. دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001، 2006، 2009).
[2]– نفسه، ص 8-9.
[3]– نفسه، ص 8
[4]– نفسه، ص10
[5] – نفسه، ص 11.
[6] – ماجد فخري، الفكر الأخلاقي العربي. نصوص اختارها وقدّم لها. جزآن (بيروت: العلمية للنشر والتوزيع، 1978).
[7] – محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي (4). العقل الأخلاقي العربي، مصدر سابق، ص 12-13.
[8] – نفسه، ص 14
[9] – نفسه، ص 16.
[10] – نفسه، ص17.
[11] – نفسه، ص 18.
[12] – نفسه، ص 17.
[13] – نفسه، ص 31-56
[14] – نفسه، ص 57 وما بعدها.
[15] – نفسه، ص 62
[16] – نفسه، ص 67
[17] – نفسه، ص 489
[18] – نفسه، ص 535
[19] – نفسه، ص 553 وما بعدها
[20] – نفسه، ص 537-560.
[21] – نفسه، ص 561 وما بعدها.
[22] – نفسه، ص 595 وما بعدها.
[23] – نفسه، ص 572
[24] – نفسه، خاصة الصفحات 597-618.
[25] – نفسه، ص 619-620.
[26] – نفسه، ص630.
[27] – مصطفى النحال، “هوامش حول “العقل الأخلاقي العربي”، ضمن: جريدة “الاتحاد الاشتراكي” المغربية 26/7-8/8-2001.
[28] – محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي (4). العقل الأخلاقي العربي، مصدر سابق، ص 630
[29] – نفسه، ص 620.
[30] – نفسه.
[31] – نفسه، ص 39-40