قواعد الضحك الأربعون | جهاد أبو هاشم

تستغرق 4 دقائق للقراءة
قواعد الضحك الأربعون | جهاد أبو هاشم

من الطريف – كما أظن – أن أبدأ هذه المقالة عن الكوميديا بطرفة حقيقية وقعت بينما كنت أكتب هذا المقال، حينما يفاجئني صديق بأنه وضع كلباً لحراسة بيته من اللصوص، فسُرق..!

كانت تلك مقدمة أردت فيها أن أنقل إليك عزيزي القارئ نمط النكتة والشكل الحديث لها، والذي قد لا يتعدى بضع كلمات، بما تحمله من تضاد ومفارقات، والتي قد تباغتك دون موعد، مثل هذه النكتة التي أوظفها لأبدأ مقالاً “نفلسف” فيه معاً الضحك والنكتة.

يُقال – والعُهدة على الراوي فيلسوف القرن السابع عشر إيرل شافتسبري – أن الكوميديا هي إطلاق لأرواحنا المسجونة الحرة بطبيعتها. فهل نحن فعلاً كذلك؟ ربما.

دعونا ندلف عالم النكتة والضحك من حيث بدأ “عمّنا” نيتشه، الذي يقول إن الإنسان هو الحيوان الوحيد القادر على الضحك، متفقاً مع أرسطو الذي سبقه بوصف الإنسان بأنه حيوان ضاحك.

ومن هنا، أظن أن في عقل كل إنسان مساحة للضحك يتواصل فيها مع الآخر؛ فالإنسان يبدأ الضحك منذ عمر الثلاثة شهور، حتى قبل أن يبدأ التكلم، ولا أميل إلى التصديق بأن الضحك هو تطور عن البكاء، مثلما يعتقد عالم الأنثروبولوجيا ديزموند موريس في كتابه “القرد العاري”، لكنني أميل إلى الأخذ بما يراه عالم الأحياء داروين، وهو أن أن الضحك قد يوجد بمعزل عن التفكير، كما يُلاحظ على البلهاء وصغار الأطفال الذين يضحكون ليعبروا عن حالة الرضا والارتياح، ولا يصحب ذلك فكرة أو خاطرة ذهنية.

وفي شيء من التحليل الفلسفي، يبسط الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون في كتابه “الضحك” فلسفة الكوميديا بلغة السهل الممتنع، ويرى أن الضحك بأنه مَلكَة إنسانية من طرفيها، فلا يضحك إلا إنسان، وما من شيء يضحكنا إلا أن يكون “إنسانياً” في صورة من صوره، ولو على سبيل التشبيه، وهو سلاح الإنسانية للمحافظة على المرتبة التي وصلت إليها فوق الجماد والحيوان.

وكان غريباً ولافتاً حينما اطلعت على دراسة أجراها علماء في عام 2016 على مجموعة من أناس عشوائيين، لمعرفة مدى عمق العلاقة بين شخصين حينما يسمعون أصوات الضحك بينهما، وما إذا كانت تلك الضحكات صادقة أم مجرد تمثيل، واللافت أنهم تمكنوا من تحديد ذلك من خلال الضحكة!

***

لماذا نضحك؟

سؤال في محله تماماً، سمعت غير مرةٍ عبارة مؤثرة قالها فرويد، مفادها أنه لولا الضحك لانفجر الإنسان..

يهدئ الضحك عضلاتنا العقلية، فنحن نضحك لنعبّر عن مشاعرنا، وننسى مشكلاتنا لوقتٍ قصير، ولو أننا كنا في موقفٍ مشحون أو متوتر، وتواصل أحد الأطراف مع الآخر بابتسامة، فتلك علامة أمان كافية لمحو ذلك التوتر، وفقاً لعلم النفس التطوري.

ولعل افتتاح بعض المؤتمرات والندوات بموقف طريف هو نصيحة ثمينة من الخبراء لإيقاظ روح الإبداع، ومن شأن ذلك الموقف أو النكتة التي يلقيها متحدث أن تهيئ أذهان الحضور لمعالجة التحديات والعراقيل الصعبة التي سيناقشونها تباعاً.

الضحك ليس مجرد فكاهة كما قد تعلم عزيزي القارئ، نحن نضحك لأسباب معروفة وأخرى مجهولة، ولكلٍ منها تفسير ودلالة، نحن نضحك عند الفرح والمرح، عند المزاح، عند السرور والرضا، والإعجاب، والمودة، والمفاجآة، والدهشة، مثلما نضحك كذلك عند الازدراء والشماتة والعداوة!

النكات، الدعابة أو الطرفة، والمقالب، والهزل والسخرية… كلها أنشطة تواصلية تدعو إلى الضحك والقهقهة، وزِد عليها “الكوميكس” و”الميم” على منصات التواصل الاجتماعي، التي باتت شكلاً جديداً للنكتة، وهي مجتمعة في حقيقتها ترياق لصحتنا النفسية، و”عيادة نفسية متنقلة” كما توصف، وتنظر أبحاثٌ لا حصر لها إلى الضحك كعلاجٍ للقلق والاكتئاب، ومضاد للتشاؤم واليأس والغضب، يقوي الذاكرة، ويساعدنا على الاسترخاء.

هذا النشاط التواصلي أثبته العلماء في دراساتهم، وأكدوا أن الضحك بين مجموعة من البشر نسبته أعلى بـ 30 مرة من أن يكون الإنسان وحده، لأن الضحك ليس نشاطاً عفوياً مثل السعال أو العطس مثلاً، وإنما أداة اجتماعية للتواصل مع الآخر.

أما النكتة، فهي التسلية المجانية للعقل كما يصفها الممثل والكاتب جوناثان ميلر، والتي تحافظ على سلامتك النفسية، وتعد متنفساً لضغوط الواقع، وحتى سلاحٌ ضد الأعداء، كما يخبرنا التاريخ.

فرويد في كتابه “النكتة وعلاقتها باللاوعي” نقل لنا أن النكات – والمقالب غير المؤذية بطبيعة الحال – تساعد المجتمع في تفريغ ضغوط عداونية في عقله اللا واعي، بشكل آمن وبدون صدام، حتى لا تتحول المشاعر المكبوتة إلى عنف، ومثال ذلك نكات الفقراء على الأغنياء، والطرائف التي تلاحق المديرين، والتي تقلل من شأن أولئك الذين اعتادوا ترهيبنا، في إنجاز يعد من أهم إنجازات الإنسان النفسية، بوصفها دفاعات نفسية لمواجهة المخاطر المهددة للذات.

وتتفق معه رؤية الفيلسوف ألكسندر باين، التي تستند على نظرية التفوق وسرورنا برؤية رفيعي الشأن في مستوى منخفض، في تفريغ يسمح لنا بخفض مستوى التوتر النفسي، وقد تصل بمن يضحك إلى مرحلة “الجُبن” كما يصفها الشاعر الأميركي روبرت فروست، حينما علّق قائلاً “العالم ليس نكتة، إننا نطلق الدعابات حوله فقط لنتجنب مشكلة ما مع أحد الأشخاص… الفكاهة هي الجُبن الأكثر سحراً”.

قلة من الفلاسفة ممن اتخذوا موقفاً سلبياً من الضحك، أبرزهم أفلاطون، الذي اعتبر السخرية خطراً على مدينته الفاضلة، أو الجمهورية المثالية التي بشّر بتأسيسها، وداهمته الريبة والشك حولها، فهو يرى أنها قد تكون مدمرة وداعية للانقسام، محذراً من الوقوع في فخ الضحك؛ لأنه لا يأتي إلا نتيجة الحقد تجاه من هم أكثر قوة منا، بمعنى أننا نتلذذ برؤية من هم أقوى منا في موضع مضحك، إلا أنها لذة ممزوجة بألم، وناتجة من وهم أننا نعرف أنفسنا جيداً، في حين أن العكس هو الصحيح؛ إذ نعتقد بأننا نرتفع فوق من نضحك عليهم في المنزلة الاجتماعية.

وكفى بالنكتة قدرتها على أن تشعرنا بتحسن، فالنكتة تذكرنا بأن هناك شخص أكثر غباءً منا!

***

كأن النكتة لا تعترف بالزمن..

قد يتملكك الفضول لمعرفة أقدم نكتة موثقة في تاريخ البشرية، أي قبل نحو 4 آلاف سنة، وفقاً لمصادر مختلفة ومتفقة تناقلت بحثاً لخبير الكوميديا الدكتور بول ماكدونالد من جامعة ولفرهامبتون البريطانية، إذ ترجع النكتة الأقدم إلى عام 1900 قبل الميلاد، وثقها لوحٌ طيني سومري جنوب العراق، وجاءت على شكل لغز يقول: “ما هو الشيء الذي لم يحدث منذ زمنٍ سحيق؟ شابةٌ لم تطلق الريح في حجر زوجها”!

أما ثاني أقدم نكتة موثقة فهي للفراعنة، في عام 1600 قبل الميلاد، وتقول “هل تعرف كيف ترفه عن فرعون يشعر بالملل؟ سهلة، أبحِر أسفل النيل بقاربٍ مملوء بشابات ترتدين شباك صيد فقط، واطلب من الفرعون الذهاب واصطياد سمكة”، كناية عن حرص الفراعنة على ممارسة الجنس، والذي كان تسليتهم في أوقات الفراغ.

وفي تاريخ الأديان، كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يمزح مع أصحابه، وتذكر أحاديث السنة النبوية شواهد كثيرة، منها قوله لأنس بن مالك رضي الله عنه: “يا ذا الأذنين”. ممازحاً إياه، وقبل ذلك يسجل التاريخ أن الكنيسة المسيحية في أوقات مبكرة كانت ترتاب من النكتة والفكاهة، وتنهى عن المزاح، إلى أن خرجت تفسيرات لاهوتية أوصت بالمزاح كنوع من أنواع العلاج والتخفيف عن النفس.

في كتابه الصادر اللغة الإنجليزية بعنوان “أوقفني إذا سمعت هذا”، حول تاريخ وفلسفة النكات، يكشف الفيلسوف الأميركي جيم هولت أن أثينا لم تكن كلها جادة على غرار الأفلاطونيون، فقد كان هناك أيضاً مجموعة الستينات (The Group of Sixty)، وهو نادٍ كوميدي بنكات نالت إعجاباً واسعاً، مثل نوادي الكوميديا في عصرنا الحالي، لدرجة أن الملك فيليب الثاني والد الإسكندر الأكبر كان يدفع للكتبة ليسلجوا تلك النكات!

وإن كان فضولكم كبيراً حول محتوى تلك النكات، يمكن العودة إلى كتاب “فيلوجيلوس” الصادر في القرن الرابع، والذي يتضمن 264 نكتة يونانية قديمة تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد.

النكتة هي القبيلة الجميلة التي نصبت خيامها في كل ديار العرب، بل والعالم بأسره، وهي مقياس لقياس تفكير الشعوب، والكثير من الكتب تناولت النكتة والضحك وفلسفتهما وعمقهما الإنساني، مثل كتاب “الضحك والنسيان” للروائي التشيكي ميلان كونديرا، وكتاب “فلسفة الفنون الجميلة” للفيلسوف الألماني جورج هيغل، وكتاب “ضحكة ميدوسا” لهيلين سيسو، وكتاب “مختارات من الكوميديا السوداء” للروائي السريالي الفرنسي أندريه بريتون، والكتاب البارز والشهير “فلسفة الفكاهة” للكاتب البريطاني تيري أيغلتون.

والمكتبة العربية، بطبيعة الحال، غنية بكتب كوميدية مثل كتب “الحيوان” و”البخلاء” للجاحظ، إضافة إلى “أخبار الحمقى والمغفلين” لابن الجوزي، و”حكايات ألف ليلة وليلة” والمعروف قديماً بـ “أسمار الليالي للعرب مما يتضمن الفكاهة ويورث الطرب”، و”الفاشوش في حكم قراقوش” لابن مماتي، وكتاب مضحك العبوس لابن سودون المجنون، وكتاب “الضحك تاريخ وفن” للدكتور أحمد أبو زيد، و”الفكاهة والضحك.. رؤية جديدة” للدكتور شاكر عبدالحميد، وغيرها من الكتب التي أذكرها في مواضع مختلفة من هذا المقال، وخرجت بها بما يمكن تسميتها “قواعد الضحك الأربعون”، على غرار رواية الكاتبة التركية الشهيرة أليف شافاك “قواعد العشق الأربعون”!

هذه الفكرة الصغيرة أغامر وأضعها على الورق، تبين أن إلقاء النكات مَلَكة وعلم يرى أن النكتة الناجحة والمضحكة عادة ما يجتمع فيها مجموعة من هذه الشروط والقواعد.

أول هذه القواعد الأربعون أن يكون إلقاء النكتة سريعاً، فإذا ألقيت نكتة يجب أن تكون أول من يضحك عليها، كما أنك لو اضطررت لمقاطعة محادثة جادة لإلقاء نكتة خطرت في بالك.. فافعل ذلك ولا تتردد!

تقول التقاليد الكوميدية – إن جاز لنا أن نسميها بذلك – أنك يجب أن ترد النكتة بنكتة، وينبغي لك أن تعرف أين ومتى تلقي النكتة، وتجنب إلقاء النكات حول المقدسات الدينية والزعماء السياسيين، وتذكر أن نكتة ألقت بصاحبها إلى السجن لسنوات طويلة.

يجب أن تكون النكتة بسيطة وطبيعية ومرنة، تلقى بروح عفوية بعيداً عن العصبية، ولا بأس إن حاولت تقليد الأصوات واللهجات – إن كنت تجيدها – فلذلك نكهة خاصة لدى المتلقين.

فضلاً عن التزامك بقاعدة التكرار، فلو قلت نكتة ولم يسمعها أحد؛ يجب أن تعيدها حتى تتأكد أن الجميع سمعها وفهمها، ولا بأس أن تتلاعب بالكلمات وأن تربط بين الأحداث بشكل غير منطقي للخروج بدعابة جيدة.

واحرص على حسن الصياغة مع الإيجاز والاختصار وسرعة البديهة؛ فالنكتة دائماً ما تلخص الموقف والقصة في بضع كلمات، وقلل من محاولاتك إلقاء النكتة بالفصحى، فذلك غالباً قتلٌ رحيم لها، وحاول الابتعاد عن النكات القديمة، فلكل مقام نكتة ومقال!

غالباً، النكات التي تُلقى في أكثر من مكان لا تضحك الآخرين.. انسِها فوراً، ولا تحاول تفسير مغزى النكتة للآخرين، فشرح النكتة وتحليلها هو ذبح لها من الوريد إلى الوريد.

بكل تأكيد، لست فيلسوفاً يونانياً لأجزم بصحة ادعاء كل قاعدة، لكن التجربة وحدها كفيلة بأن تولد هذا الشعور بصحتها، ولعلك أيها القارئ قد أدركت بفطرتك وحنكتك أن النكتة عدوى؛ ما أن تلقيها ويضحك عليها اثنان، ستجد البقية يتتابعون ضحكاً مثل أحجار الضومنة (الدومينو)!

***

الضحك لدى المتلقي هو إعلان انتصار للمرسل، الذي روى نكتته لينتزع ابتسامة أو ضحكة من محيا الجمهور، برشاقة وخفة وبراعة، ولكن؛ من أين تستوحى النكتة؟

النكتة في طبيعتها أحداث، تنتمي إلى علم الضحك الذي يعد علماً حديثاً، بدأ في الستينيات ميلادية، حينما شرع طبيب الأعصاب وليم فراي في جامعة ستانفورد الأميركية بدراسة علمية حول تأثير الضحك، ليسمى مؤسساً لعلم الضحك.

ويدرس هذا العلم حقولاً شتى، منها ولادة النكتة وابتكارها، ولا يمكن الجزم بصحة كل تلك الطرق والحيل، وإنما يمكن الجزم بأن النكتة تتولد عند التناقض أو الزلة (الانحراف) في المعنى إلى معنى مغاير كلياً، كما نتندر ونضحك عند الخديعة وخيبة الحيلة، والمقالب التي يصفها عباس العقاد بـ “بواعث الضحك”، ونضحك أيضاً عند التلاعب بالألفاظ أو الجناس اللفظي، والمحاكاة، وعند الملاحظة اللاذعة أو إدراك الفروقات، ومخالفة المتوقع بقول شيء آخر، والانتقال المفاجئ في الأحداث والموقف الذي ترويه النكتة، والألغاز التي تعتمد على المغالطة والمتشابهات التي تختلف في الحقيقة أبعد اختلاف، وكذلك عند تقديم النصائح الهازلة، مثل تلك النصيحة التي يقدمها “عمّنا” سقراط: بكل الأحوال تزوج.. لو حصلت على زوجة جيدة ستكون سعيداً، ولو حصلت على زوجة سيئة ستصبح فيلسوفاً!

بوعي ومن دون وعي، كان العالم أجمع يتندر بسبب حالة حظر التجول التي ألقت بظلالها جائحة كورونا قبل ثلاثة أعوام، وكانت شعوب العالم – لاسيما السعوديون – يخففون من توترهم وحالات الملل بتداول نكات تصف الفراغ الذي خلفه الوباء، واستدعاء مشاهد من مسلسلات كوميدية لتصف الملل أو حال الإنسان في تلك الأيام ورغبته في الخروج من سجن “كورونا” الوهمي، في مشهد حديث سجله علم الضحك وفلسفته.

وبالحديث عن الضحك، كانت الحيرة تأكلني لأعرف لماذا تصيبنا نوبات الضحك في أوقات يملؤها التوتر، بل ومحرجة؟ مثل الضحك في جنازة أو بيت العزاء، أو الضحك في خطبة، أو عند ساعة الامتحان، وأثناء الاجتماعات رفيعة المستوى، وحين نشاهد فيلماً مفزعاً في السينما!

قد يكون تفسيرها المنطقي في طيات دراسة البروفيسور روبن دنبار من جامعة أكسفورد التي تقول أن الضحك يزيد قدرتك على تحمل الألم، حيث يفرز مادة كيميائية في الجسم تسمى (إندورفنز)، تساعدنا على تحمل الألم الزائد، وكلما زاد التوتر يحفزنا المخ على الضحك أكثر.

***

كلما أمعنا تفكراً في فلسفة الضحك، أدركنا شيئاً جديداً، فمثلاً ليس كل الضحك دليلاً على الصحة النفسية والمعنويات العالية، ولنا دلالة في مصير النجم الهوليوودي روبن ويليامز، الذي وصل فيه الحال إلى الاكتئاب ثم الانتحار! كوميدي أسعد العالم كله وهزمه الاكتئاب.

هذا دليل على أن الكوميديا والنكتة قد تميتك مجازياً، وحتى حرفياً! فالتاريخ يسجل أن الموت فعلاً وفوراً من الضحك قد لحق بالملك مارتن ملك أراغون، الذي توفي بعد نكتة رواها مهرج البلاط، فأصابته نوبة ضحك قضت عليه، ومثله الفيلسوف الإغريقي الشهير خريسيبوس الذي فارق الحياة بعد نوبة ضحك، وتلاهما الروائي البريطاني أنتوني ترولوب الذي أصيب بسكتة دماغية حينما كان يضحك على رواية كوميدية، وكذلك الروائي الإيرلندي لورنس ستيرن الذي ضحك بشدة لدرجة أن أحد أوعيته الدموية انفجر وفقد 4 وحدات دم في غضون ساعتين.

درس الفلاسفة أنواع الضحك وأسبابه، والفروض والاحتمالات، والعوارض الجسدية التي تعم الجسد بعد الضحك، وارتباطه بالأفكار والأحاسيس، مئات الكتب والمراجع أفرطت في الكتابة عنه في القرنين الأخيرين، بسبب نشأة علم الذوق أو علم الجمال، الذي ينظر الفروق بين الجميل والجليل والمضحك، وفقاً للأديب الراحل عباس محمود العقاد في كتابه “جحا الضاحك المضحك”، الذي يعرفنا على “الأمم الضاحكة”، ويقول بأنه لا توجد أمة متحضرة لها تاريخ قديم خلت من نوابغ الفكاهة والضحك، يقدمون الحكمة بمزيج من السخرية والتهكم والدعابة، فتؤخذ فيه الحكمة مأخذ الجد والمزاح في وقت واحد، مثل الفرس المشهورين بالنكات القديمة والحديثة من عهد الحضارة الكسرونية، ومثلهم الفرنسيون، وكذلك اليابانيون والألمان رغم شهرة الشعبين الأخيرين بالجد والكد والانصباب على العمل.

ويقلب العقاد في كتابه بين عشرات الأمثال القديمة، ومنها “الحب والعطر لا يختبئان” (مثلٌ فارسي)، و”ما من شجرة تحمل الأرز مطبوخاً” (مثلٌ ياباني)، “للقلب منطقٌ لا يعرفه المنطق” (مثلٌ فرنسي)، و”بطنٌ فارغ أشجعُ من رأسٍ ملآن” (مثلٌ ألماني)، في دلالة أن لا تفضيل لأمة على أمة في الفكاهة والضحك، ومثلهم العرب الذين نسبوا النوادر والحكايات الطريفة إلى شخصية “جحا” التاريخية الشهيرة، وأسندت بها الكثير من الحكايات المتخيلة، من نوادر الحماقة والبلاهة والتحامق.

النكتة توجد في القصور والبيوت والشوارع، عند الغالبية والأقلية، هي جزءٌ لا يتجزأ من المجتمع، لا تنحصر في فئة ما، وبقي أن نشير إلى أن النكتة – غالباً – لا يتم اختراعها، وإنما تتطور، فهي ذاتها النكات المتداولة منذ مئات السنين، لكنها تكتسي حلة جديدة.

وشوشة صغيرة، نكتة أود أن أبوح بها قبل أن أختم هذه المقالة، لنكون بذلك قد بدأنا بكلب وانتهينا بآخر، يقول المثل: “لا تصاحب كلب وتقول عضني”!

مررها   كن جزء من مجتمع مرّرها اشترك بنشرتنا.